د. الصاوي يـوسف يكتب : انهيار الجنيه

لم يحدث مثل هذا الانهيار السريع في قيمة الجنيه السوداني من قبل. فقد صعد الدولار من 60 جنيها إلى 250 جنيهاً في أقل من عام، أي بنسبة 416%. ومن ناحية أخرى صعد التضخم من 36% إلى 196% خلال نفس الفترة، أي بزيادة 540%. ويمكن ببساطة ملاحظة أن المرتبات التي زيدت بنسبة 569% قد فقدت قيمتها الشرائية، وعادت لتعادل نفس قيمة المرتبات السابقة قبل الزيادة.

السبب الرئيس والواضح لهذا الانهيار هو بالطبع توقف الإنتاج، ولكن العوامل الأخرى التي ساهمت في ذلك لا تقل أهمية، فتخبط السياسات وخطلها، الذي وصفه العالم الاقتصادي المعروف د. معتصم الأقرع، بسلوك شخص شرب برميلاً من الفودكا، هذا التخبط هو سبب توقف الإنتاج، ثم مضاعفة المرض بإعطاء المريض المزيد من الضربات العنيفة المتتالية على رأسه، مثل الزيادة المهولة في المرتبات دون أن تقابلها زيادة في الإيرادات الحقيقية، وتوقف أغلب أجهزة الدولة، خاصة في المحليات والولايات، بسبب تدخل “لجان المقاومة” ومنسقيات الحرية والتغيير في عملها، وطباعة العملة دون حدود، خاصة أن البلاد لأول مرة في تأريخها لا تعمل وفق ميزانية مجازة، والصرف على أجهزة السلطة الجديدة كمجلس السيادة، وعلى الوساطة الجنوبية في المفاوضات مع الحركات المسلحة (10 مليون دولار في آخر دفعة معلنة)، هذا بجانب إغلاق البلاد لعدة شهور بسبب الكورونا، وندرة الوقود التي انعكست على قطاعات الزراعة والصناعة والنقل، وخداع النفس والآخرين الذي مارسته السلطات والقوى الحاكمة، من خلال الإعلان عن مصادرة ممتلكات قيمتها 4 مليار دولار من الفاسدين، والمعونات والمنح والقروض التي تقدر بأكثر من نصف الميزانية، والمبالغ المهولة التي ستتم استعادتها من حسابات الفاسدين في الخارج، أو ممن تتم محاكمتهم في الداخل، أو من المزاد العالمي الذي ستباع فيه دور المؤتمر الوطني بعد حله ومصادرتها.

إذن فقد حدث الانهيار بالفعل. وقد لا يجدي كثيراً البكاء على اللبن المسكوب، ولكن من المهم تشخيص أسباب المرض وطبيعته قبل الشروع في علاجه. ومن أهم قواعد العلاج أن من سبّب المرضَ لا يمكن أن يكون هو نفسه الطبيب المداوي. إن ما حدث يحتاج إلى ثورة. ثورة حقيقية. وهي تغيير جذري في طرائق التفكير ومناهج الإدارة وهياكلها ومعايير اختيار شخوصها. فبدلاً من تعيين أسماء نسمع عنها في الفيسبوك بأنها نجحت في الإقامة في بلدان  غربية ونيل جنسيتها والعمل في مؤسساتها، نحتاج أن نختار خبراء حقيقيين ممن عرفوا العمل في جهاز الدولة داخل السودان، يعرفون تعقيداته ومناهجه ولوائحه ونظمه، ولا يخبطون خبط عشواء. ونحتاج أن نبتعد عن الهتافات والشعارات الجوفاء، وننزل إلى أرض الواقع. وبدلاً من خداع الناس طول الوقت بأن كل أسباب المشاكل هي النظام البائد، نحتاج للإعتراف بأن سبب المشكلة هي عجزنا نحن عن إصلاح الوضع، وتنكبنا الطريق الصحيح، وسيرنا الأعمى خلف هوى النفس وهتافات الغوغاء. وسبب المشكلة هو هروبنا من الواقع ودفن رؤوسنا في الرمال، واعتمادنا على آخرين مجهولين سوف يأتون مع ليلة القدر حاملين المن والسلوى والمليارات من الدولارات، والتي إن صحت فإنني أشك أننا سنحسن إدارتها واستخدامها.

ما نحتاج إليه الآن هو اعتراف الفاشلين بفشلهم، وإرجاع البلاد لأهلها لكي يواجهوا الحقيقة، ويتعاملوا معها بمسؤولية. لا أحد سوف يأتي لإنقاذنا. لا أحد. نحتاج أن  نجلس مع بعضنا لنضع الحقائق “على بلاطة” ونتفق على خطة قاسية وصارمة للإنقاذ، ونحمل طوارينا ونتجه إلى الإنتاج الحقيقي. وليحمل السادة الخبراء جوازاتهم وليعودوا إلى مدنهم البعيدة التي “تنوم وتصحا على مخدات الطرب” والنشوة.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى