أهل الفضل: السعودية والإمارات

د. الصاوي يوسف يكتب :

طرأت على بلادنا في الفترة الأخيرة آفة خطيرة ومدمرة لكل القيم، هي آفة الجحود، والإساءة للآخرين. كل الآخرين بلا تمييز. ساهمت في ذلك الوسائط التي يكتب فيها العامة، ممن لا يتوقع منهم سوى الغوغائية والجهالة واللغة القادمة من قاع المجتمع وحضيض الأخلاق. ولكن المؤسف أن ينجرف في تيار ذلك التوجه، بعضٌ ممن يظن الناس بهم الفهم، وقيادة الرأي العام ببصيرة، وبأعلى مستويات المسؤولية الوطنية والخلقية والدينية.

فليس من خُلق أهل السودان، جحود أفضال الناس عليهم، وليس من المروءة أن يعض الإنسان اليد التي أحسنت إليه، وليس من المحمود أن يسئ المرء لجيرانه وأهله، حتى لو كانوا هم لا يرعون حق الجوار والرحم، دعك عمن يقدرون العلاقات ويدفعون عن خاطرٍ طيبٍ ضريبة تلك القربى والجوار.

والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة من الدول الأقرب للسودان، لغةً وديناً ووجداناً ومصلحة. يقيم في السعودية ما يقارب المليون سوداني، ويقيم أكثر من 100 ألف في الإمارات. ويبلغ مجموع تحويلاتهم إلى أهاليهم في السودان ما يزيد عن نصف مليار ريال سنويا في أقل التقديرات، هي التي تعيش عليها حوالي 4 مليون أسرة سودانية بشكل مباشر، وحوالي 3 مليون أسرة بشكل غير مباشر، لأنها هي القوة الشرائية الوحيدة في الأسواق. والأرقام تقديرية حيث لا توجد إحصاءات دقيقة للأسف.
قدمت السعودية والإمارات ممن الدعم والمنح والقروض للسودان ما لا يمكن حصره في هذا الحيز الصغير، ولكن يكفي أن نشير إلى أن السعودية قدمت قرابة العشرة مليار ريال، كما قدمت الأمارات أكثر من 6 مليار درهم، وقدمت الكويت عبر صندوق الشرق قرابة المليار دولار، غير قروض الصندوق الكويتي، للبلاد في الفترة من 2011 وحتى نهاية 2017، وهي الفترة التي عانى فيها السودان من عجز كبير في ميزان المدفوعات بعد انفصال الجنوب وتوقف عائدات صادر النفط. ومع ذلك لم تظهر آثار تلك الصدمة وتبعاتها طوال السنوات الست، في شكل أزمات متكررة وندرة في الوقود والخبز والغاز، إلا بعد توقف تلك الدعومات السخية، حين وجد المانحون الكرماء أن ما يدفعونه يصب في بئر لا قرار لها، وقربة مقدودة لا يرجى منها أن تمسك من الماء ما يسقي الشعب الشقيق. ولعل توقف ذلك الدعم كان هو العامل الأهم في تدهور الأمور وبالتالي في إشعال جذوة الثورة الغاضبة التي أدت إلى سقوط النظام.

وعقب سقوط النظام مباشرة، قدمت الدولتان وديعة للبنك المركزي مقدارها 500 مليون دولار، إضافة إلى إمدادات من القمح والوقود بقيمة 450 مليون دولار. كل هذا والعالم يتفرج على البلاد وهي تتقلب في الأزمات السياسية والاقتصادية. ومن عجب أن البعض انبرى ليلوم هؤلاء الأشقاء زاعماً أن مساهمتهم في مؤتمر برلين كانت رمزية، وكأن لديهم دَيناً أو وديعةً واجبة السداد لدى هذه الدول. ونسي هذا البعض أو تناسى أنه ما من دولار حقيقي دخل هذه البلاد في السنوات التسع الأخيرة، إلا من هؤلاء الأشقاء. فقد كان دعمهم حقيقياً، وكريماً، وخالياً من المنِّ والرياء والإعلان والمكاء والتصدية، بينما أرقام الدعم المزعوم من دول الغرب وصناديقه هي في الحقيقة أرقام في الهواء كقبض الريح، تذوب سريعاً ما بين مصروفات إدارية ومعدات مشتراة من تلك الدول نفسها لصالح بعثاتها في البلاد، أو دعم لوجستي وغذائي وحتى تسليحي لحركات التمرد، تحت ستار المعونات الإنسانية. هذا إذا صدقوا في تعهداتهم المعلنة!

تبلغ استثمارات السعودية في السودان نحو 12 مليار دولار، واستثمارات الإمارات حوالي 7 مليار دولار، وهما المستثمرين الأكبر في البلاد. إن ما يربطنا بالسعودية والإمارات ليس هو فقط هذه المصالح الاقتصادية، فهذه مصلحة متحولة، فقد كان السودان حتى منتصف الستينات من القرن الماضي دولة داعمة للأشقاء، وليست متلقية للدعم. والأيام دول وستتغير الأحوال وسيأتي زمان تعود فيه يدنا هي العليا. ولكن ما يربطنا بهؤلاء الأشقاء هو رباط وجداني أخوي لا انفصام له. والناظر إلى خارطة الجينات في المنطقة، أو إلى اللهجة المتداولة، أو إلى العادات والتقاليد، فسيصاب بدهشة عظيمة حين يرى درجة التقارب والتشابه والمشتركات بين بلداننا. والأشقاء يقدرون هذه الروابط ويكنون لأهلهم في السودان حباً كبيراً واحتراماً عظيماً، قل أن يجده السودانيون في البلدان العربية الأخرى، وتكفي عشرات القصص المتداولة عن الثقة التي يضعونها في العامل السوداني أو عن الصداقة والعُشرة الاستثنائية التي يوثقونها في حكاياتهم مع معلميهم وزملائهم وعمالهم، حتى وصلت درجة إدخالهم بيوتهم وائتمانهم على أعراضهم وأموالهم.

إن ما بيننا وبين السعودية والإمارات ليس شأناً سياسياً عابراً يقرر فيه الصبية المغيبون بالهتاف الأعمى والكراهية لكل ما هو أصيل وجميل، ولا يقرر فيه كتبة الوسائط الذين لا صلة لهم بأهل السودان، دعك عن أهل الدول الشقيقة، فهم يعيشون في عالم من الوهم الافتراضي، ينضح بالسوداوية والعدمية والعدوانية، والإحساس بالدونية التي تحتاج أن تسئ إلى الآخر حتى تشعر النفس المريضة بالراحة والاستعلاء الكاذب. إن ما بيننا وبين هؤلاء الأشقاء هو رباط روحي أبدي من الدم والرحم والصلات وسوابق الفضل، بين أشقاءٍ لسان حالهم يقول: يربطنا حبل ويقطعنا سيف.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى