الاقتصاد للبسطاء

 

أولاً لنتفق على أن الدولة مجرد مفهوم اصطلاحي. فليس هناك كائن اسمه الدولة، فمكونات الدولة هي الأرض والشعب والسلطة المستقلة ذات السيادة. وإذا افترضنا أن لدينا “دولة” مثل السودان، سكانها عشرة أشخاص فقط، أحدهم هو الرئيس، والثاني ممرض، والثالث شرطي، والسبعة الباقون هم مزارعون ورعاة وعمال، فإن الدولة بمفهومها الضبابي في أذهان الناس لا وجود لها في الحقيقة.

يحتاج هؤلاء العشرة أفراد، وهم سكان البلاد، يحتاجون للطعام والملابس وغيرها من احتياجات البشر. يعمل كل واحد لإنتاج ما يحتاج إليه من غذاء من مزرعته. ولكن: من أين يحصل الرئيس والممرض والشرطي على غذائهم؟ حسناً، في حالة (الموظفين العموميين) هؤلاء، فإن السبعة الآخرين هم الذين يدفعون لهم أجراً مقابل عملهم في الشرطة والتمريض والإدارة. وماذا عن الأشياء الأخرى العامة: من الذي يدفع لحفر البئر للحصول على الماء، ومن الذي يشتري الإسعافات الأولية ويضعها لدى الممرض لحين الحاجة إليها؟

مرة أخرى، فإن العاملين في الإنتاج والزراعة والعمال هم الذين يدفعون لذلك. وماذا عن الأدوية المستوردة، والأسمنت المستورد لصناعة الطوب وبناء البئر والمركز الصحي؟ هذه أيضاً يدفعها المنتجون، فهم يدفعون الضرائب للرئيس، فيقوم هو بتصدير بعضها والحصول مقابلها على المواد المطلوبة من الخارج.

إذن يمكن القول إن الدولة هي آلية نتفق عليها نحن العشرة، فنختار من بيننا من يكون رئيساً أو في الواقع مديراً على مواردنا، ونختار من يقومون لنا بخدمات أخرى ضرورية تحتاج للتفرغ والتأهيل المناسب. ثم ندفع لهم من إنتاجنا، أولاً لمرتباتهم هم، وثانياً لشراء ما نحتاج إليه من الخارج. وبذا نلاحظ أنه لا يوجد كيان اسمه الدولة يستطيع أن يحصل على المال بطريقة سحرية وينجز بها المشروعات ويدفع بها الرواتب ويقدم الخدمات مجاناً للناس.

في بعض الدول المحظوظة قد تتفجر الأرض بينابيع من النفط مثلاً، ويصبح العائد، الذي هو ملكنا جميعاً، في خزينة الرئيس ينفق منه على المشروعات والخدمات والرواتب. ولكن هذا أمر استثنائي وغير شائع. فأغلب الدول لا تملك ينابيع نفط ولا مناجم ذهب. والقليل الذي تملكه دولة مثل السودان، يذهب للمواطن الذي أنتجه، ولا تملك الدولة سوى الحصول على الضرائب، وسلطة التنظيم مثل تنظيم التسويق والتصدير.

إذن حين نقول الدولة، فنحن نقصد أولئك الناس الذين يعملون في وظائف النفع العام، كالصحة والتعليم والإدارة والطرق والشرطة والجيش وغيرها. ومن الناحية الأخرى نقصد بقية المواطنين الذين يعملون في الإنتاج بمختلف ضروبه، وتحصل الدولة على نسبة من إنتاجهم، لتدفع منها الرواتب وتبني بعض المشروعات الضرورية.

وفي الدول القليلة الإنتاج، مثل دولتنا ذات العشرة مواطنين بينهم سبعة فقط يعملون وينتجون، فإن “الدولة” لن تستطيع بناء طرق ولا مستشفيات ولا محطات كهرباء وسدود ومطارات ولا تستطيع شراء طيارات وسفن وأساطيل الشاحنات ولا أي شئ.

وهذا بالضبط هو الحاصل في دولة السودان الحالية. فمن بين الأربعين مليون مواطن، يوجد عدد كبير يزيد عن النصف، من الأطفال الذين لم يبلغوا عمر العمل بعد، وعدد من الشيوخ والمرضى والعاجزين عن العمل لأي سبب، ويوجد عدد كبير ممن يعملون في وظائف النفع العام في الدولة، أي أنهم غير منتجين بالمعنى المادي للإنتاج، بل هم أنفسهم ينتظرون العطاء من بقية المنتجين. والقلة الباقية لا تعمل في الإنتاج، بل يظل أغلبهم عاطلين عن العمل في انتظار الوظائف. والقلة القليلة التي تعمل وتنتج، لا تدفع الضرائب، إما لأنها أصلاً تعمل في مهن إنتاجها قليل يلا يكاد يكفي لمعيشتهم البسيطة، وهؤلاء هم أغلبية المزارعين والرعاة والعمال في بلادنا، وإما أنهم يتهربون من دفعها، وهؤلاء هم العاملون في المهن التجارية ووسطاء الأسواق ومستوردي السلع ومصدريها.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى