عصر حميدتي

نُشرت في بعض الوسائط مؤخراً صورة مركبة من صورتين، إحداهما لهتلر الذي احتل نصفَ العالم في شهورٍ قليلة، بملابسه البسيطة العادية، والثانية لزعيم عربي صدره مُرصعٌ بالنياشين والأوسمة والميداليات والنجوم، وهو الذي لم يخض حرباً في حياته، ولا حتى “هوشة” في الحارة كما كتب على الصورة.

ذكرتني تلك الصورة، بما يتداوله البعض في الوسائط عن قائد الدعم السريع، الفريق أول محمد حمدان “حميدتي” وتكرارهم أنه لا يستحق هذه الرتبة الرفيعة. والذي نعرفه أن الجيوش تُرقّي ضباطها وفقاً لكفاءتهم وتقارير أدائهم الميداني، وذاك هو مجال عملهم، وليس وفقاً لشهادات الدكتوراه من أرقى الجامعات. وبهذا المعيار فإن حميدتي، الذي أنشأ قوات الدعم السريع من الصفر، وأدارها وأشرف على تنظيمها وتدريبها وتسليحها، واستيعابها ضمن القوات النظامية، حتى وصلت إلى ما وصلت إليه الآن، وقادها ليخوض بها معارك عديدة منذ مطالع القرن، كسبها جميعاً وخرج منها ظافراً، أقول إنه بهذا المعيار فهو أحق من كثيرٍ ممن نالوا رتباً رفيعة وهم لم يغادروا مكاتبهم الوثيرة يوماً، ولم يطلقوا طلقةً واحدة ولا شاهدوا الأشلاء تتمزق والدماء تتطاير من حولهم والميت مسولب والعجاج يكتح!

لذا، حين يُكتب تأريخ هذه الفترة من عمر السودان، فلا شك أن المؤرخين سوف يصفونه بأنه عصر حميدتي.

وحميدتي كشخص، مجرد شخص عادي. سوف يقضي فترة خدمته العسكرية منها والمدنية، ويمضي. ولكن حميدتي في حقيقته ليس شخصاً وإنما هو تجسيد لظاهرة في السياسة السودانية. وإذا كان العلماء يقولون “لكل فعلٍ رد فعلٍ مساوٍ له في المقدار ومضاد له في الاتجاه”، فإن القانون في السياسة هو أن لكل فعلٍ رد فعل يفوقه كثيراً في القوة والمقدار. فبسبب مقتل شخص واحد اندلعت الحرب العالمية الأولى، وبسبب حرق بوعزيزي لنفسه ثارت تونس وتبعتها عدة دول أخرى. وبسبب سياسة التهميش المركزية لشعوب السودان التي تعيش خارج الخرطوم، وتقوم وحدها بكل الإنتاج الذي تعيش عليه البلد ونخبته، ولا تتلقى إلا الفتات والاستعلاء، فقد ثارت هذه الشعوب ثوراتٍ مسلحةً ضد حكومات المركز. فقد امتدت الحرب في الجنوب عبر العهود، العسكرية منها والحزبية، مما يؤكد أنها لم تكن ثورة ضد حاكم معين ولا نظام واحد، وثارت حركات دارفور والنوبة وحركات الشرق والنيل الأزرق وغيرها، وما تزال.

إن نشأة قوات الدعم السريع كقواتٍ قبلية وجهوية، ثم تطورها في اتجاه قومي، وتصديها للقضايا القومية، وخوضها الحروب باسم الوطن كله، ثم امتداد تأثيرها للعاصمة نفسها، حيث قامت بتأمين الثورة والثوار، وضغطت في اتجاه إسقاط النظام، واندمجت في القوات المسلحة الموحدة وصارت فصيلاً متقدماً في إدارة المرحلة الانتقالية، هذا التطور هو نجاحٌ غير مسبوق لشعوب الهامش، وانتصار لمعركة استرداد الحق في هذه البلد لكل أبنائها.

ورغم أن بعض نخب المركز ورموز الاستعلاء ما زالوا يرددون نغمة الرفض لهذه القوات، رافضين وجودها، ومشاركتها، ووصولها إلى السلطة، وامتلاكها لبعض الموارد المالية، إلا أن القمقم قد انفتح، والمارد الهامشي قد خرج، ولن يرجعه أحدٌ ليصبحَ مجرد منتجٍ للحاصلات الزراعية والمواشي، ليعود ريع صادرها لأفندية المركز، يستمتعون وحدهم بدولاراته، ومخصصاته، وسفرياته، وبدلاته، وفلله وقصوره. يكفي أن عندهم الكهرباء والمطار والطرق المعبدة وموية الماسورة.

ولسع، أرجو الحلو!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى