الأخت الشقيقة والأخوات غير الشقيقات

تمُر العلاقات السودانية المصرية بمراحل مُتعرّجة صعوداً وهبوطاً عبر السنين. فمن الاحتلال الثنائي، إلى محاولات الاتحاد، ثم الصراع، ثم التكامل، ثم مراوحة الوضع بين القرب والابتعاد، ما يسميه السودانيون “لا بريدك لا بحمل براك”!

العلاقة بين البلدين مُحمّلة بقدر كبير من العواطف القوية جداً. فهي تمتد على طول طيف العواطف من “أخت بلادي يا شقيقة” والعلاقات الأزلية وروابط التأريخ والدم والجغرافيا، إلى الحديث عن احتلال حلايب، والنظرة الخديوية الدونية، واعتبار السودان حديقةً خلفيةً ومصدراً للمياه المجانية المنسابة بلا انقطاع.

للأسف فإن العلاقة بين البلدين كانت دائمة ضحية لنظرة السياسيين الضيقة، المحكومة بالمواقف المُسبّقة، ونظرة العوام المشحونة بالهتافات والشعارات والانفعال. وبالرغم من أن مياه التواصل بين الشعبين ظلت جارية بلا توقّف، خاصة في مجالات التجارة والسياحة والعلاج وغيرها، إلا أن العلاقات الرسمية ظلّت تتعرّض لهزّات مُتعدّدة، وعدم استقرار واضح، وعشوائية تشبه ما نُسمّيه رزق اليوم باليوم. فلا يوجد مسار استراتيجي تم رسمه من قِبل النخب الأكاديمية والمخططين الاستراتيجيين، ولا توجد خطط متوسطة وبعيدة المدى لتقوية العلاقات وتطويرها وتعميق المصالح والروابط، والسير في مسارٍ واضح للتكامل الاقتصادي والإنتاجي والتجاري، ولا لتطوير العلاقات العلمية والفنية بين الشعبين، ولا لترسيخ التواصل بين فئات المجتمع في البلدين. ولولا أن “الدم العمرو ما ببقى موية” يسري في عروق العلاقة بين الشعبين، لتوقّفت المصالح وانقطعت العلائق تماماً.

متى إذن سوف تنتبه الحكومتان، إلى أن مصير كلٍّ من البلدين مربوط بالآخر رباطاً لا انفكاك منه؟ ومتى تدرك الحكومتان أن تحقيق المصالح المشتركة يقتضي التواضع على خطة استراتيجية بعيدة المدى، لا تتأثر بالرياح العابرة ولا التغييرات السياسية في هذا البلد أو ذاك، لضمان استمرار نمو العلاقات، وتطوير المصالح بما يُحقق منفعة البلدين. فلا النيل سوف يتوقف عن الجريان، ولا الجوار يمكن استبداله بجوار آخر يحقق لنا سهولة التنقل والسياحة والتجارة وغيرها من المصالح.

فمصر هي الشريك الأول للسودان في كل شيء، في الإقامة والسياحة والعلاج والتعليم والتبادل التجاري والإعلام. والسودان هو سوق مهم للمنتجات المصرية، ومصدر مهم للمواشي واللحوم والمحاصيل، وموئل للكثير من المستثمرين، وبالطبع هو مصدر شريان الحياة الأبدي: النيل.

 أُغلقت مدارس النهضة المصرية وجامعة القاهرة في السودان، ولكن الطلاب السودانيين الدارسين بمصر ما زالوا يُعدّون بالآلاف. تزداد الهجرة إلى بلدان الخليج النفطية بحثاً عن فرص العمل ذات العائد الأكبر، ولكن الجالية السودانية في مصر ما زالت هي الأكبر. ربما قلّ عرض ومتابعة المسلسلات المصرية في قنواتنا، ولكن يظل السودانيون يرددون في أحاديثهم اليومية عدداً لا يحصى من العبارات الشهيرة من “مدرسة المشاغبين” و”شاهد ما شافش حاجة” وغيرها.

فهل ستُبادر الحكومة الجديدة في السودان إلى تحريك ملف العلاقات مع مصر، وتدعو إلى عقد مؤتمرات وملتقيات وورش عمل، يؤمها المثقفون والأكاديميون والفنانون والعلماء ورجال الدين ورجال الأعمال وقيادات المجتمع قبل السياسيين، من البلدين، وذلك لوضع إطار مستقبلي راسخ بعيد المدى، لترسيخ وتطوير العلاقة بين البلدين؟ وهل من جهات أخرى، كالجامعات ومراكز البحوث ومنظمات المجتمع المدني والأحزاب، تسعى للمبادرة وطرح حجارةٍ متعددة في بركة العلاقات الساكنة، بحيث تتحرك مياهها وتنساب خيراً ووعداً، واستقراراً في تيرموميتر التكامل بين البلدين؟

لا شك أن العلاقة مع مصر تتأثر سلباً وإيجاباً بالعلاقات وتحوّلاتها مع البلدان الأخرى، وهذا ما سنتناوله إن شاء الله في مقالات قادمة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى