د. الصاوي يـوسف يكتب : هل نحتاج للتنمية؟

والإجابة القصيرة هي: لا. لا نحتاج للتنمية. حين تكون مريضاً تصارع من أجل النَفَس، وتعاني سكرات الموت وآلام الاحتضار، فلن يكون همك هو شراء بدلةٍ فاخرة من باريس، أو سيارة من طراز لامبورقيني أو رحلة إلى جزر البهاما. وحين تكون جائعاً لم تأكل منذ ثلاثة أيام، ولا تجد حتى قطعة “قرقوش” تقيم بها الأود، فلن يكون همك هو شراء أحدث أسطوانات الموسيقى ولا حضور آخر أفلام هوليوود. وحين تكون مطارداً من قبل اللصوص القتلة، وحيداً وخائفاً ومفزوعاً تبحث عن ملاذٍ وملجأٍ تأوي إليه، فلن يكون بمقدورك التفكير في سقاية وتنسيق زهور الحديقة، ولا في كتابة قصيدةٍ غزليةٍ ترسلها لحسناء تحبها.

يتحدث السودانيون، جميع السودانيين، عن العهود السابقة باعتبارها عهوداً ذهبية، ويعاودهم الحنين لتلك السنوات الماضية، حينما كانت “الدنيا بخيرها” وكان كل شئ مثالياً، من حيث أسعار السلع، وقيمة الجنيه السوداني، والخدمات المستقرة كالماء والكهرباء والسكة الحديد، ونظام الخدمة المدنية، ومستوى التعليم والمدارس، وحتى مستوى لاعبي الكرة والمطربين والشعراء، وغير ذلك من علامات “العصر الذهبي” المزعوم.
وبناء عليه فإن التنمية هي أمرٌ غير ضروري وربما كان ضاراً في الحقيقة. فأقصى أحلامنا الآن أن نعود إلى الوضع الذي كنا عليه قبل سنوات بعيدة. وحينها لم تكن لدينا مشروعات التنمية الحالية، من حيث عدد المدارس والجامعات، والطرق والكباري والمطارات، والمصانع الحديثة ومئات آلاف السيارات، والسدود ومحطات التوليد الكهربائي، ومصافي البترول، وحتى أعداد مكيفات الهواء والعمارات الزجاجية اللامعة.
واضحٌ إذن أن ما نحتاجه هو الاستقرار. الاستقرار على وضعٍ ما، أياً كان هذا الوضع، والتأقلم معه. نحتاج إستقراراً في السوق، من حيث وفرة ونوعية السلع، ومن حيث الأسعار. نحتاج إستقراراً في الخدمة المدنية والخدمات، فلا تتعرض الكهرباء والماء للقطوعات، ولا المدارس والجامعات للإغلاق المتطاول، والطرق للتتريس والتعويق عبر الحرائق والمطبات والقطوعات. ونحتاج إستقراراً في جهاز الدولة والحكم، فلا يتغير النظام كل بضع سنوات أو أشهر، ولا يتغير الوزير والوالي والمدير عدة مرات في العام الواحد، ولا تتغير النظم والقوانين كل بضعة أشهر.
العهد الذهبي الذي يحن الناس للعودة إليه كان خالياً من منجزات التنمية، وكان بسيطاً وبدائيا، ولكنه كان مستقراً، في ذاكرة الناس، وفي تأثيره على حياتهم، ذلك التأثير الممتد حتى اليوم.
ولذلك فمن الخبل والغباء، أن نسعى اليوم، ونحن في حالة المرض والجوع والخوف التي نشهدها الآن، إلى تحقيق أي تنمية من أي نوع. فالمطلوب فقط الاستقرار على الحالة التي كنا فيها، ولتذهب أساطير التنمية إلى سلة المهملات، حتى تستقر البلاد على نظامٍ يرتضيه الناس، ثم ليجلسوا بعدها للتفاكر والاتفاق على نوع وحجم وطريقة تنفيذ التنمية التي يريدون. وأخشى أن يسعى القوم إلى التنمية والتغيير، ثم يعودون بعد أعوامٍ قليلةٍ، ليبكوا على فقدان العهد الذهبي الذين نعيشه الآن، مقارنة بما سيأتي، بعد أن يطاردوا السراب سنيناً، ويضيعوا المزيد من الفرص والموارد والأعمار، وبعد أن يصبح الرجوع مستحيلا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى