محمد طلب يكتب: طَريتّنا عام 1980

كنتُ بصدد الكتابة عن مفردة شبه مندثرة وهي (طَريتّنا) بفتح الطاء رغم أنها كانت مفردة منتشرة وسائدة ثم بادت وهي تعني (ذكرتنا) وعند كسر الطاء (طِريتنا) تعني (تذكرّتنا) إلا أن (أستاذ موسى مصطفى موسى) وهو معلمنا في المدرسة الابتدائية (طِراني) ثم (طَراني) الزمن الجميل وامتحاننا من المرحلة الابتدائية للمتوسطة في العام 1980…

كانت مكالمة هاتفية من (أستاد موسى) تحمل حسرة وحزن كبيرين وبكاء على أمر التعليم عموماً وقبل أن أسرد لكم موضوع بكاءه وحسرته سوف نتعرف على أستاذ موسى وعلى جيله في لمحة بسيطة بالقصة التالية…

لا زلت أذكر ذلك اليوم بكل تفاصيله ذهب (أستاذ موسى) لسوق الخضار بالخرطوم (مول الواحة الآن) واشترى أكبر الأرانب بالسوق حيث كانت تباع هناك ثم تحصّل على (مخدِّر) طبعاً لابد من إضافة كلمة (مشرط) و(مقصات عملية) حتى لا يذهب عقلكم بعيداً فأنا أحكي عن العام 1980 وكلمة (مخدرات) لم نسمع بها في ذلك الوقت أما الآن بمجرد ذكر الكلمة تسمع كمية من الأسماء والأنواع آخرها (الآيس)..

المهم أستاذ موسى معلم مادة العلوم المحترم كان قد جهّز نفسه وتمت تهئيتنا  لعملية تشريح الأرنب بعد الحصة الأخيرة..

ونحن في ذاك العمر شهدنا عملية تشريح ربما لا توجد في الكليات المتخصصة الآن، وكان الغرض منها بذكاء هو معرفة الأجهزة التي درّسنا لها ذات الأستاذ بالمدرسة ويريدنا أن نعرفها أكثر ونراها وهي تعمل أمام أعيننا مثل الجهاز الهضمي والجهاز التنفسي والقلب والدورة الدموية وقد نجح في ذلك فرأينا كل هذه الأجهزة وهي تعمل بعد أن قام (أستاذ موسى) بتثبيت الأرنب وهو حي على المنضدة وتم تخديره تماماً ثم تشريحه… شاهدنا القلب وطريقة عمله في الانقباض والانبساط وضخ الدم وشاهدنا عمليات الشهيق والزفير وعمل الرئتين والقصبة الهوائية… كما عرفنا خارطة طريق (الطعام) من الفم والمرئ والبلعوم ثم المعدة والأمعاء حتى فتحة الشرج… ثم دلف بنا إلى الكليتين والحالب والمثانة وكل ما درسناه من أجهزة شاهدناه يعمل أمام أعيننا بدهشة وحب معرفة… تم كل ذلك بطريقة منظمة ومشوقة ابتداءً من الكنبة الأخيرة حتى الأولى في شكل مجموعات منظمة ومتشوقة… كان عملاً مدهشاً ونحن في ذلك العمر وكان (أستاذ موسى) مستغرقاً في هذا العمل ويشرح بحب عظيم لتلاميذه.. اذكر أننا خرجنا في ذلك اليوم الساعة الخامسة تقريباً في غاية المتعة وصار تشريح الأرنب حكاية في البيوت و(الحلة) وطالب بعضنا الأسرة بشراء أرنب لنشرحه بأنفسنا هذه المرة…

هذه المقدمة كي نتعرف تماماً على جيل (أستاذ موسى) من المعلمين ومستوى مناهج بخت الرضا والتدريب الذي يتلقّاه المعلم وكيف يحب مادته وتلاميذه ويحضر للدرس والوسائل والمشرفين ووووو…..

اتصل أستاذ موسى وهو يحكي لي عن امتحان مادة العلوم لمرحلة الأساس هذا العام ويطلب مني الكتابة عن (طاشر) سؤال خارج المقرّر وهو يقسم ويستغرب من الذي أو الذين وضعوا هذا الامتحان ويصر بشدة أن من وضع الامتحان ليس له علاقة بكتاب العلوم الصف الثامن ولا يعرف ما بداخله جيداً…. أنا شخصياً على ثقة تامة بما قاله معلم ظل يدرس هذه المادة نصف قرن من الزمان… كما أفادني أن طريقة الامتحان والإجابات (الاختيارية) مثل أجب بلا أو نعم أو ضع علامة ✔️ على الجملة الصحيحة أو ضع القائمة (أ) مع ما يناسبها من القائمة (ب) يجعل أمر (الطاشر) سؤال خارج المقرّر غير واضحة بالنسبة لمعظم التلاميذ لأن الأمر لم يعد امتحاناً كما كان بل (شخطك بختك)….

استمعت بحرص واهتمام (للأستاذ موسى) ووعدته بزيارته والإطلاع على تفاصيل أكثر و(طِريت) ما قد كان وحاولت التخفيف على (أستاذ موسى) فثقتي به وبخبرة أكثر من نصف قرن كافية لتوضح أن هناك خطأ وخلل جسيم في امتحان هذه المادة بل في عملية التربية والتعليم برمتها و(طِريت) ما حدث قريباً مع مدير المناهج د. القراي الذي حاول إعادة البناء لكن معاول الهدم كانت حاضرة…

عموماً يبدو أنني لم أخرج عن الموضوع الذي كنت أنوي الكتابة عنه فقد (طِريت) الكثير واستخدمت ذات المفردة تكراراً لعلها تكتسب ذات الوهج عندما يتغنى عبد العزيز محمد داؤود:

حليلهم دوام بطراهم

في قلبي دوام ذكراهم

ورحم الله أبو داؤود ومعلمي ذلك الزمان ومفردة طريتنا وطريناك فقد كانت مفردة شاعرية في ذلك الزمن، ومؤكد أن معناها قد ضاع مثلما ضاع الكثير وهي غير مستخدمة الآن لكن أستاذ موسى (طرانا) الكثير فقد تغنت البلابل:

نور بيتنا وشارع بيتنا يوم ما جيتنا

يا الهليت فرحت قلوبنا و(طريتنا) الليلة وجيتنا

وتظل المفردة تصر على شاعريتها فتقول نفس الأغنية:

خطوة عزيزة ويوم موعود الخلاك (تطرانا) شوية

تسأل فينا وتجي حارتنا

وتظل المفردة بفرحة وإيقاع طروب وألحان بشير عباس الشجية الطرية   (تطرينا) الماضي الطريد في نفس الأغنية تقول:

دابا الليلة الفرحة (طِرتنا)

الحظ جانا وغشى سكتنا

زارنا وجابك لينا هدية

تبقى هديتي للقراء هذه المفردة وتصاريفها الجميلة.. أما مهاتفة أستاذ موسى وموضوعها فهو (يهرد الكلى) ويزيد الحسرة على (جمهورية السودان الديموقراطية) وأمر التربية والتعليم هو الأساس نحو التقدم لو تعلمون…

سلام

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى