فض الاعتصام

آخر النفق

د. الصاوي يـوسف

[email protected]

 

تعودنا في السودان أن نواجه القضايا الخطأ في الوقت الخطأ بالطريقة الخطأ. ففي  خضم الأزمة الاقتصادية الخانقة وتدهور مستوى معيشة الناس والهبوط الخرافي في قيمة العملة الوطنية، تجد الحكومة والأحزاب والنشطاء يتحدثون عن تعيين المجلس التشريعي وعن ضرورة محاكمة الشرطة التي أطلقت الغاز على الذين أرادوا اقتحام مجلس الوزراء، وكأن هذه هي قضايا الساعة، والهم الذي يشغل 40 مليوناً من السكان!

وبنفس هذه الشتارة، التي تذكرنا بسباق الحمير الشهير في يوم المعركة الوطنية ضد العدو الغازي المحتل، بنفس هذه العقلية تجد الساسة والنشطاء لا حديث لهم سوى “جريمة فض الاعتصام” وضرورة الإسراع في التحقيق وتقديم المسؤولين للمحاكمة. ولا أدري بأي قانون سيحاكَم مَن فض الاعتصام، ولا لماذا نحقق في مَن فض الاعتصام؟ فقد فضت الاعتصام قواتٌ مشتركة من مختلف القوات النظامية، وبأمر السلطة، وهو أمر معروف وغير منكور. ولذلك كان ينبغي أن يتجه التحقيق إلى معرفة من قتل الشهداء، وكيف ولماذا؟ ذلك أن القوات التي فضت الاعتصام كما قال القادة العسكريون مراراً وكما رأينا في التسجيلات، لم تكن مسلحة بأي أسلحة نارية، ولم تؤمر بقتل الناس، وإلا لكان الضحايا بالالاف لا بالعشرات. ولذلك فإن الحديث عن “مَن فضّ الاعتصام” هو حديث لا معنى له، والتحقيق فيه هو مضيعة للمال والجهد والزمن. يجب البحث عن المجرمين الذين استهدفوا الشباب واصطادوهم كما العصافير بأسلحةٍ لا نعرف نوعها ولا أين كانت. ويجب أن يتحدث الناس عن القتلة المجهولين، وأن يبحثوا عن هويتهم وأشخاصهم، حتى يُلقى عليهم القبض ويقدموا للمحاكمة. ويجب أن يتوقف الاستغلال السياسي لذلك الحدث. فكلٌ يركز الآن على أجندته السياسية. فالبعض يريد تجريم الجيش أو الشرطة أو الأمن أو الدعم السريع، فيسارع إلى إلصاق التهمة بهم، وهو على كل حال يتحدث عن التهمة الخطأ، فيقول أنهم فضوا الاعتصام، والبعض يريد تجريم المجلس العسكري، فيقول أنهم أمروا بفض الاعتصام، والبعض يريد تجريم بعض القوى السياسية، فيقول أنهم كانوا على علم بقرار وتوقيت فض الاعتصام. ويتناسون أن الجريمة هي قتل الشهداء، وليس فض الاعتصام في حد ذاته، فذلك تقديرٌ تمارسه السلطات يومياً، فتتصدى للمتظاهرين أو المعتصمين، خاصة في  منطقةٍ حساسةٍ معروفة، ومكتوب عليها بالخط العريض: منطقة عسكرية، ممنوع الاقتراب والتصوير، وقد جرت فيها من الأحداث ما يشيب له الولدان، حتى أن الجيش الذي كان متعاطفاً أقصى التعاطف مع المعتصمين، والتحم معهم من أول يوم وقرر الانحياز لهم وخلع النظام، أغلق أبوابه دونهم واتخذ لنفسه مكاناً قصياً، حين رأي جنود الحركات المتمردة أمام بوابته يتبجحون بدخول حرمه عنوةً، وغيرها من المنفّرات التي أوجدت الجفوة بين الجيش والمعتصمين، بل بين الشعب نفسه والمعتصمين. ولذلك نقول أن الجريمة الحقيقة التي يجب البحث عن مرتكبها هي قتل الشهداء، وبعضهم كان بعيداً عن منطقة الاعتصام، بل وبعضهم في مدن أخرى، رغم أن هناك من تجار الدم ورافعي قمصان الشهداء من يركز على أسماءٍ معينةٍ  وانتماءاتٍ سياسيةٍ معينة، ولا تعنيهم أرواح البشر في قيمتها المطلقة المكرّمة من  الله تعالى.

الاعتصام والتظاهر نشاط سياسي، يحدث يومياً في مختلف الأماكن، وتتصدى له السلطات وتتعامل معه وفق القانون والنظم، دون أن تستخدم سلاحاً قاتلاً أو ينتج عنه ضحايا بهذا العدد. وما حدث في ذلك الفجر ينبغي ألا يصرف الناس عن الجريمة الحقيقية، وهي قتل الشهداء بنيةٍ مبيتة، ولهدفٍ خسيس، سيعرفه الناس حين يعرفون القتلة الحقيقيين.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى