عودة الحياة. عودة العقل؟

عادت الحياة للحركة الاقتصادية ولحركة الناس والمجتمع، بعد الإغلاق الطويل الذي فرضته جائحة الكورونا. عادت إذن الأسواق، والمواصلات، والسفر بين المدن والولايات، وعاد الطلاب لأداء إمتحاناتهم والجامعات لمواصلة الدراسة.
كل هذا سهل وميسور ومتوقع، وكان ينتظر فقط قراراً من السلطات، يسمح للناس بالحركة ومعاودة نشاطهم القديم. ولكن المطلوب حقاً ليس فقط السماح بعودة النشاط المألوف. المطلوب في الحقيقة هو بداية جديدة. بداية مختلفة. مطلوب عودة العقل، وعودة القانون، وعودة النظام والانضباط لحياتنا، بعد أن ضاع منا زمنٌ لا يقدر بثمن، وضاعت أرواحٌ وأنفسٌ وأحباب، وضاعت فرصٌ يصعب تعويضها، وأعمارٌ لن تعود أبدا.
مطلوب مقاربة جديدة لمشكلات البلاد والناس. مقاربة لا تعتمد على الهروب إلى الماضي بتعليق كل شئ على شماعة النظام المباد، وكأنما زوال النظام ثم مرور الزمن، كفيل وحده بإصلاح الحال. فنظافة الأرض الزراعية وحده لن يأتي بالمحصول. هو فقط الخطوة الأولى التي تمهد للمزارع أن يحرث الأرض من جديد، ويسطرها من جديد، ويبذر فيها البذور المناسبة في الوقت المناسب، ثم يتعهدها بالري والسقيا، والعناية والتسميد والحراسة من الآفات، ثم ينتظر نضج المحصول، قبل أن يبدأ بالحصاد. كما لا تعتمد المقاربة الصحيحة على الهروب إلى الأمام، ونشر الوعود الكذوبة على طريقة زيدان الكسلان، بأننا في الصباح، حين يصل العون الأجنبي والدعم الأممي، سوف نعبر وننتصر، وسننظف من هناك إلى هناك، مع مد اللحية إلى الأمام، عجزاً عن الإشارة بالإصبع الشجاع!
المطلوب بدايةً تتخلصُ من عقلية إبن نوح، الذي لا يريد العمل مع جماعته، ولا حتى الركوب معهم في مركب واحد، ويزعم أنه وحده سينجو لأنه سيلجأ إلى جبل يعصمه. وعقلية الصبية الصغار، الذين يلعب الواحد منهم ليفوز وحده، وإلا فإنه سوف “يشيل كورته ويمشي”. المطلوب خطة للإعتماد على النفس، وتحمل تبعات القرار المستقل، والتنمية المستقلة. والمطلوب توسعة قاعدة السلطة الحاكمة، وذلك بالنزول إلى كل المجتمع، بدلاً عن الإكتفاء بدعم نخبة معزولة من أقليات أحزاب وسط الخرطوم. والمطلوب مصارحة الشعب بالحقائق وتمليكه المعلومات ومكاشفته بالخطة التي وضعتها الحكومة لإصلاح الحال.

المطلوب العودة لسيادة حكم القانون، وتطبيق مبادئ العدالة. فلا إدانة إلا أمام قاضٍ طبيعيٍ ومحكمةٍ مؤهلة، والمطلوب المسارعة بتشكيل المحكمة الدستورية، في عهد يُرجى أن يكونَ عهداً لسيادة العدالة. والمطلوب المساواة أمام القانون، فلا يُعتقل المغضوب عليه شهوراً بلا تحقيق ولا محاكمة، ولا يُطلق سراح ذي الحظوة في أقل من ربع ساعة، دون تحقيق ولا ضمان ولا إجراءات مكتملة.

والمطلوب عودة عاجلة لمسار الفترة الانتقالية كما اتفقت عليها كل الأطراف: تعيين حكومةِ كفاءاتٍ مستقلةٍ عن الأحزاب والتحيزات، وتحقيق السلام، والشروع في الإعداد للانتخابات، وذلك بإجراء التعداد السكاني، وتشكيل المفوضية المستقلة، وإجازة قانون الانتخابات.
لقد غيرت الكورونا مسار العالم، وتركت آثاراً لن تمحى قريباً، وأيقظت الكثير من المعاني المنسية والمهملة، وعاد الملايين من سكان العالم إلى بداية جديدة تحتفي بالحياة وبالإنسان، وبالآخر على وجه التحديد. وهي بالنسبة لنا فرصة للعودة إلى الوعي وإلى العقل والمسار الصحيح، وإلى بداية جديدة تقودنا إلى آخر هذا النفق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى