محمد أحمد ود الزاكي .. توقيع على دفتر الأحزان

افق اخر
علي الصادق البصير
محمد أحمد ود الزاكي .. توقيع على دفتر الأحزان
إننا في الحقيقة لا نبكيهم لأنهم رحلوا، بل نبكي أنفسنا لأنهم تركونا وحدنا، إن كل الآمنا ودموعنا وفراقنا وقلقنا لأننا لن نراهم بعد اليوم في دنيانا، وقد كانوا بعض سلوتنا أو جزءاً من حياتنا).
الباحث الدكتور.عبد الله القفاري

في أوائل تسعينيات القرن الماضي بسوق رفاعة عندما كنت برقفة الخال والوالد محمد أحمد حاج الزاكي ولا اعرف وقتها الى اين نحن ذاهبون ولماذا؟ ولكن يبدو انه كان يقضي لنا في أمراً أسرياً وسرياً، وعندما اقتربنا من سوق (الترزيه)، توقف ود الزاكي فجأة عن المسير وغير اتجاهه بسرعة، وطلب مني ألا التفت إلى الوراء حتى لا يرانا (فلان).. تعجبت لهذا الموقف وسألت باندهاش، لماذا يا خال؟ فاجابني اجابة ظلت راسخة بذهني أكثر من ثلاثين عاماً.. قال لي: (فلان هذا استدان مني مبلغاً من المال، ولم يتمكن من اعادته لي في الوقت المحدد، ولا اريده أن يراني فاسبب له حرجاً..) هذه هي اخلاق ومباديء الخال والوالد والعم الخلوق محمد أحمد حاج الزاكي، الذي رحل عن دنيانا بسعه صدره وحلمه ووقاره، فقد كان رحمه الله تقياً نقياً وفي اوآخر أيامه كان يعاني من خشونة في الركب وألم في أسفل الظهر وحالة صحية انهكت قواه وجسده النحيل، إلا انه ورغم هذه الحالة ظل يحبو للمسجد حبواً وهو مشهد لا يحتاج الى كثير تفصيل، فهو رجل تعلق قلبه بالمساجد، فحياته كلها كانت مشاهد وشواهد ولأنه كان داعية بالقدوة لا بالمواعظ.
سطر ود الزاكي خلال مسيرته العامرة في الحياة سيرة حافلة بالعطاء والتضحيات والتفاني وبعزيمه وقوة بددت كل المخاطر التي مر بها في حياته واحالتها الى زكريات وطرائف ظل معظمها حبيساً في صدره، فهو من اوائل الذين انضموا لسلاح الإشارة بالسودان، (الطاقية أم ريشة والرداء)، وله فيها العديد من الزكريات والمغامرات والمجازفات، وبعد نهاية خدمته رجع إلى مسقط رأسه بمدينة رفاعة واستقر بها وأسس فيها عملاً تجارياً، صحبته خلالها سيرة عطرة بالكفاح والنضال والجهاد وهي الفترة التي قدمت شخصيته المميزة للمجتمع وجعلت منه رمزاً من رموز المدينة وأحد أعلامها البارزين.
تميز الحاج ود الحاج بلطف نادر فهو موسوعة معرفية تتصف بالقدرة الفائقة على التأثير، والتفاعل مع الآخرين رجالاً ونساء شيباً وشباباً، وحتى الصغار كان لهم مكانة في قلبه الكبير، وهنا تتجلى عبقريته في ايجاد علاقات سوية مع من حوله، ما أن تجلس اليه إلا وتشعر أنك من المقربين اليه، فهذه الخاصية النادرة تجلت عند كل من عرفه، حيث يظن الكل بأنه أقرب الناس إلى ود الزاكي، حتى ابنائه وبناته كل يفخر بانه صاحب المكانة المييزة عنده.
تجلت هذه الصورة عندما حكيت لابن خالتي عمر الوجه بان المرحوم كان يضع لنا ولوالدتنا المرحومة عائشة الزاكي (شقيقته) مكانة خاصة، وذلك بعد انهاء عمله الشاق وسط النيران وفي وقت متاخر من الليل لا يذهب لمنزله بل كان يقطع مسافة طويلة من السوق لديم لطفي متفقداً احوالنا وهو يحمل لنا مالذ وطاب من السمك واللبن والباسطة، ويعود ونحن نيام، فقال لي عمر: (تخيل أنه كان بعد ما يمرق من الديم بجي الحلة الجديدة وهو يحمل ذات المطايب لوالدتنا المرحومة (زهراء) شقيقته الكبرى ويتركنا ونحن نيام)، ولا نعلم أين كان يكمل مشاوره الليلي، بعد معرفة هذه الحقيقة تاكدت من معلومة لا اذكر من الذي قالها، ولكنها عالقة بالذاكرة، فقد كان ينفق من ماله انفاق من لا يخشى الفقر، وكان يصرف كل ارباحه على عارفي فضله، ادخر كل مخزونه ليوم رحيله فجعل من تلك الأرصدة الكبيرة صدقة جارية وابناء بارين يدعون له صبحاء مساء، رحمه الله بقدر عطائه وحبه وبره لاخواته واخوانه، لذلك يصعب علينا نعيه وتظل كلمات الأديب د.عبد الله القفاري تجسيداً لسان حالنا عندما قال:
أرثيك يا رجُلاً توارى ذِكرهُ، بين الأنام وهل يفيد بيانِ.
خالدٌ ولن يجد الزمان بمثلهِ، شهماً شريفاً طيفه أشجانِ.
أعلم أن المساحة تضيق وفي الحلق قُصة ولكل من عرف الراحل محمد أحمد حاج الزاكي قَصة تروى أو سيرة عطرة تقابلها قصص ومواقف جمة ظلت في ستر الغيب لانه أرادها بينه وبين الله تعالى.
رحمك الله خالنا ووالدنا وعمنا ود الزاكي (اللهمّ اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه وأكرِم نُزله وأوسع مُدخلَهُ واغسلْهُ بالماء والثلج والبَرد ونقِّه من الخطايا كما ينقّى الثوب الأبيض من الدنس).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى