زيادة المرتبات: هو أقرب للتقوى

الزيادة الأخيرة للمرتبات، إذا كانت فعلا ضمن حزمة متكاملة من الإجراءات، هي أحد أهم خطوات الإصلاح الاقتصادي في السودان. لقد بحت الأصوات وهي تطالب بإصلاح نظام الدعم السلعي، ليس فقط لأنه دعم للإستهلاك بدلاً عن دعم الإنتاج، وإنما لأنه بابٌ لمفاسدَ عظيمة، عبر استغلال الدولار المدعوم من بنك السودان (كشركات الأدوية الوهمية وغيرها) وعبر التلاعب في الحصص والبيع في السوق الأسود والتهريب، كما أنه باب لمفسدة أكبر لأنه لا يصل لمستحقيه من الفئات الضعيفة، بل تتمتع به نخبة المدينة الأكثر حظاً، والأعلى صوتاً، والأقل مساهمة في الناتج القومي. وقد اقترحنا مراراً تحويل دعم السلع إلى دعم مباشر يسلم للمستحقين في إيديهم. وكان السؤال عن من هم المستحقون، وكيف نصل إليهم؟ وأجبنا بأن أول المستحقين والذين نعرف تماماً كيف نصل إليهم، هم العاملون في الخدمة المدنية وفي جهاز الدولة. فهم الفئة الأضعف والأقل دخلاً وأقل أمكانية للتوائم مع متغيرات السوق. فبينما يستطيع صاحب كل سلعة أو خدمة (سيد اللبن، وسيد الخضار والجزار والتاجر، وعامل اليومية، وستات الشاي، وبائع الفول والطعمية وسواق التاكسي الخ) يستطيع أن يزيد في سعر سلعته أو خدمته لتواكب متغيرات السوق، فإن أصحاب المرتبات هم الوحيدون الذين ظلوا يستلمون نفس الراتب، حتى بعد أن انخفضت قيمته الشرائية بما يعادل قرابة عشرة أضعاف، حينما انخفضت قيمة الجنيه التبادلية أمام الدولار من 10 جنيهات للدولار إلى أكثر ممن 100 جنيه للدولار.
إن العاملين في الخدمة العامة، وتشمل المعلمين والشرطة والتمريض والأطباء والمهن الصحية المساعدة الأخرى، والجيش وبقية موظفي الدولة، ومعهم العاملين في القطاع الخاص الذي لاشك أنه سيتبع أثر الزيادات الأخيرة ويعدل مرتبات العاملين، يشكلون ما لا يقل عن مليوني شخص، يعولون في المتوسط ستة أفراد في الأسرة الواحدة، أي حوالي 12 مليون فرد. فإذا أضفنا إلى ذلك آليات الدعم الاجتماعي الأخرى، والزكاة والتأمين الصحي وغيرها من نظم الدعم، فإن التغطية تكاد تكون مكتملة للفئات المستحقة في المدن على الأقل. ومعروف بالطبع أن تدفق المال على هذه الفئات يعود بالنفع على كافة قطاعات المجتمع. فهؤلاء هم القوة الشرائية الرئيسية في الأسواق، وبالتالي يستفيد من ورائهم كل البائعين وأصحاب الأعمال الصغيرة والحوانيت وبائعي قوة العمل اليدوي أو الحرفيين وغيرهم. إذن زيادة المرتبات لا تنعكس على الموظفين وحدهم كما يظن البعض، بل تنعكس أول شئ على دكان الحي، وعلى سيد اللبن وسيد الخضار، وعلى الحلاق والمكوجي وسائق الحافلة وست الكسرة وغيرهم.
ولكن الفائدة الأكبر سوف تتحقق من تحرير سوق السلع التي كانت مدعومة، أي الوقود والخبز والكهرباء وغيرها. وأول المكاسب هو تحقق الوفرة وعدالة السعر للجميع. فلن يكون هناك محظوظ ينال البنزين بخمسة جنيهات لسيارته التي يفحط بها في شوارع الخرطوم، ومهمش يشتري الديزل بسعر السوق الأسود بأكثر من مائة ضعف السعر الرسمي، في الدمازين وبارا وسنكات، لإستخدامه في الزراعة، ويذهب الفرق لجيوب السماسرة والمهربين. ولن يكون هناك محظوظ ينال الكهرباء لميكفاته الاسبليت بسعر 15 قرشا للكيلووات، بينما يشتريها المزارع خارج الشبكة بسعر 35 جنيه للكيلووات لأنه يستخدم في زراعته مولدات الديزل، ولا يستخدم في بيته سوى لمبات الجاز من العصر البخاري. سوف تتحقق الوفرة الدائمة بلا أزمات لأن السوق سيكون مفتوحاً لجميع العاملين في القطاع لاستيراد الوقود كما يستوردون العدس والأرز والسكر، وسيكون السعر متحركاً وفقاً للسعر العالمي ووفقاً لقيمة الجنيه في سوق العملات، وستكون الدولة كاسبة من تحصيل الجمارك والضرائب، ولا علاقة لها بالسلعة نفسها، إلا ما تشتريه لإستهلاك مؤسساتها هي.
والمكسب الثاني المهم هو توقف التهريب والتضييق، ففي سبيل محاربة التهريب، كانت السلطات توقف صاحب السيارة الذي يحمل معه “باقة” بنزين لتضمن له العودة من رحلته خارج الخرطوم، فهذا تضييق مفتعل وغير منطقي وغير ضروري وباب للفساد كبير، بينما كان التهريب بالكميات الضخمة، يخرج جهاراً من المستودعات ليباع في السوق الأسود، وفي الأقاليم بالسعر الأسود، وفي الدول المجاورة بأضعاف أضعاف سعره المدعوم. فهذا نفسه سوف يكون سبباً للوفرة ووداع الأزمات المتكررة إلى الأبد. لقد كان الرجل صاحب مقولة “الأزمة مكانها وين” محقاً حين لاحظ أنهم كوزارة يوفرون 350 ألف طن للخرطوم التي تحتاج إلى 150 ألف طن، ومع ذلك تظل الأزمة؟ الأزمة مكانها هو السعر المدعوم الذي يغري بالتهريب والفساد.
لقد أعد إتحاد أصحاب العمل في سنوات سابقة، عبر لجنة بقيادة المستثمر الزراعي المعروف وجدي ميرغني، أعد دراسةً متقنة ومفصلة، أوضح فيها أن استثمار 400 مليون دولار في القطاعات الانتاجية، وهي الزراعة وما يتعلق بها من صناعات تحويلية بسيطة تستهدف التصدير، سوف ينتج عنه صادرات بقيمة 10 مليار دولار خلال ثلاثة سنوات فقط. ولو جدّت السلطات في تطبيق تلك الرؤية في حينها لكنا الآن نحصد تلك المليارات.
ما فات شي. الآن على الدولة أن تنصرف عن دعم الاستهلاك إلى دعم الإنتاج. وأن تنفض يدها من بيع الرغيف والطعمية وأنابيب الغاز وتعبئة خزان وقود الركشات والأمجادات، وتركز على كيفية تسهيل إنشاء الأعمال وتشجيع الاسثمار الوطني منه والأجنبي، عبر التمويل، والدراسات، والقوانين الواضحة والمشجعة، وإعمار البنية التحتية والخدمات، كالطرق والكهرباء والسكة حديد والطيران، وتوفير البيئة الملائمة من حيث التشريعات والقضاء المستقل العادل، وسيادة حكم القانون، حتى لا يخاف صاحب المال على ماله من المصادرة والتعدي والظلم، وتغيير القوانين المفاجئ لصالح أفراد وضد مصالح أفراد معينين، وحتى تنتعش حركة الإنتاج في كل القطاعات، خاصة الزراعة وما يتصل بها من صناعات (مسالخ ومصانع تعبئة اللحوم، الغزل والنسيج، الزيوت، الجلود والصناعات الجلدية الخ).
لقد كانت الدولة مقيدة ومسجونة، وبإطلاق سراحها من سجن الدعم وتحويله إلى دعم المرتبات، تكون قد خرجت إلى فضاء الحرية وطلاقة الحركة، وأول الحركات المطلوبة منها هي السعي لتعظيم الانتاج والعائدات والايرادات، وذلك عبر الصادر، وتشجيع ريادة الأعمال والاستثمار، التي بدورها سوف تسود كثقافة في المجتمع، وتمتص فائض الأيدي العاملة، وتجذب الرساميل السودانية المهاجرة، قبل الاستثمار الأجنبي، والعربي خاصة.
وإذا كانت جائحة الكورونا قد أفقدتنا أرواحاً عزيزة غالية وأكثر كثيراً مما ينبغي، وكشفت ضعف نظامنا الصحي إن لم يكن إنعدام قدرته تماما، وعطلت حياتنا، على تعطيلها المستمر منذ شهور طويلة، فإن للوباء جانباً إيجابيا. فقد انجلت معركة الكورونا عن خسائر ضخمة في قطاعات الاقتصاد الصناعي والنفط والتجارة في مجال السلع الفاخرة كالسيارات والأجهزة الكهربية والإلكترونية، وبالمقابل فقد خلفت ا لجائحة وراءها عالماً جائعا يبحث عن الغذاء لسد الفجوة الضخمة، مع مراعاة حسن استغلال الموارد الطبيعية بما لا يزيد من دمار الكوكب وتلوثه، وتدهور الصحة عبر استخدام الكيماويات المضافة. والسودان يملك ميزات نسبية عظيمة في هذه المجال، بإنتاجه العضوي وأرضه البكر ونظم إنتاجه التقليدية التي لم تدخلها المضافات الصناعية الضارة والمسرطنة، وليس لديه حتى الآن شح المياه الذي أرهق العالم، وجعله مضطراً لري زراعته بمياه المجاري المعاد تدويرها، أو حتى من غير إعادة تدوير.
إنها فرصة لن تتكرر مرة أخرى قريباً. فمثل هذه الجائحة، ومثل هذا التحول الهائل في مفاهيم المجتمع العالمي وتوجهاته، لا تحدث إلا مرة كل بضع قرون. ولدى السودان الآن فرصة نادرة وثمينة، في ظل التحولات في نظامه السياسي عقب الثورة، وتصالحه مع العالم من حوله، واستعداده للإنطلاق في مرحلة جديدة، أساسها الانتاج والعمل، وشعارها الحرية والعدالة والسلام. ولا حرية لشعب ينتظر رغيفه يومياً من الدولة، أعطته أو منعته، ولا عدالة لشعب تأخذ الدولة إنتاج المنتجين منه، لتعطيه مجاناً للعاطلين في مدنها. ونواصل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى