د. الصاوي يـوسف يكتب: العيب

عندما قال الشاعر الحطيئة للزبرقان: واقعدْ فإنّكَ أنتَ الطاعمُ الكاسي، اشتكاه لسيدنا عمر، فقال له عمر: إنما وصفك وعاتبك ولم يهجوك. ولكن الرجل أصر على شكواه، فاستشار سيدنا عمر رجلين من كبار الشعراء هما حسان بن ثابت ولبيد بن ربيعة، فأكدا له أنه إنما هجاه أشد الهجاء. أردت أن أقول أن المرء الذي يجلس في بيته أو بيت أبيه يأكل ويشرب ويلبس أحسن الملابس، ويملأ تلفونه بالرصيد ليقضي سحابة يومه وليله يتجول بين الوسائط، يعلق بما لا يفقه ويهرف بما لا يعرف، إنما يهجو نفسه هجاء مريراً لا مثيل له.

 

فالعيب كل العيب، في كل الدنيا، هي أن يكون المرء عاطلاً لا عمل له ولا مهنة، لا يشارك في الإنتاج، ولا ينفق على نفسه وأهله، ولا يُفتقد إذا غاب ولا يؤثّر على مجريات الحياة إن حضر أو مات، ولا يساهم في سداد الضرائب لتمويل الدولة. هو طاعم وكاس، نعم، يأكل ويتمتع كما تأكل الأنعام والماشية والأغنام، ولكنه لا يستخدم يديه في عملٍ مفيد ولا يستخدم عقله في تفكيرٍ وتخطيطٍ يجعله مقدمةً للعمل على تحسين حياته وحياة غيره.

 

يمجّد المجتمعُ السوداني  الشخصَ العامل، المنتج، الذي يحمل هم غيره وينفق عليهم. فتجد في أشعارنا المدح لكلٍ من: لزّام التقيلة والعاطلة درّاجها، وسيد القدح البجُر، والبضبح الشايل، ومطمورتك تكيل للخالة والعمات، وغيرها كثير جداً من تراثنا الشعري والغنائي.

 

وللأسف فإن هذا التراث والثقافة الأصيلة في طريقها للاضمحلال والاندثار. فالكثيرون اليوم يستمرأون البقاء بلا عمل، معتمدين على عطاء آبائهم أو إخوتهم أو أقاربهم العاملين، وعلى بعض الوسائل الأخرى غير الشريفة، لكسب المال. في حين تشتكي بلادنا من قلة العاملين، حتى أننا نستورد العمالة من بعض الدول المجاورة وغيرها، لأن شبابنا يستنكف عن العمل، ويحب البقاء متسكعاً، أو جالساً في ظلال الأشجار وأمام ستات الشاي! وتشتكي البلاد من أزمة في الحبوب الغذائية والقمح خاصة، وفي الخضروات والفواكه، وحتى في الخيش الذي تصنع منه الجوالات، في حين تمتد الأرض الزراعية الصالحة من أقصى البلاد إلى أقصاها، فحتى  الصحراء ثبت أنها قابلة للاستصلاح والزراعة كما رأينا في مشروعات “الراجحي” و”أمطار” في صحراء الدبة، وتتوفر مياه الأنهار والأمطار في كل أنحاء السودان. ولا تحتاج الزراعة إلى تقنياتٍ ولا معداتٍ  معقدة، تحتاج فقط لليد التي تفلح الأرض وترمي البذرة وترعاها حتى تثمر.

 

نحتاج إلى تغيير عقلية العيب. فالعيب ليس أن تكون فقيراً، أو أن تعيش في الأقاليم التي لا تتمتع بالانترنت، والعيب ليس أن تلبس ملابسَ قطنية بسيطة صنعت في السودان، والعيب ليس أن تأكل كسرةً من الذرة أو عصيدةً من الدخن بدل خبز الطوستة المستورد. بل العيب كل العيب أن تكون طاعماً كاسياً على حساب غيرك، والعيب كل العيب أن تكون عاطلاً لا مهنة لك ولا عمل، والعيب كل العيب أن تكون ضروريات حياتك كلها من صنع الغير، إما مستوردةً من خارج البلاد، بعملةٍ صعبةٍ وفّرها غيرُك، أو مصنوعةً بأيدي الرجال الكاسبين العاملين، وأنت تقعد عن المكارم لا ترحل لبغيتها لأنك أنت الطاعم الكاسي!

 

نحتاج إلى توفير فرص التدريب المهني، على  مستوى المدارس الصناعية المتخصصة والمعاهد الحرفية، في مجالات الزراعة، والنجارة، والحدادة، والمباني، والكهرباء، وميكانيكا السيارات والآلات الثقيلة، وغيرها من الصنائع والحرف. ونحتاج إلى تقليل الفرص في الدراسة الجامعية النظرية التي تخرّج آلاف العطالى كل عام. ونحتاج إلى إعلام ومغنيات وحكامات، لإعادة الغناء والتمجيد للرجل العامل صاحب المهنة، الذي يعطي غيره ويطعم أهله، ولا يرضى بالعيب الكبير، أن يكون “ماكل شارب” من عرق غيره.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى