فرانسيس دينق: حبابك وقد أزلنا “السِعِد”

 

ثار نقاش جمع صحافيين كنت ضمنهم حول الدكتور فرانسيس دينق، القيادي، المفكر، الأديب، الدبلوماسي، ورجل الدولة جنوب السوداني الذي يزور البلاد هذه الأيام ضمن عشروية جائزة الطيب صالح للإبداع الكتابي، وهو نقاش تلا تداول مقال الأستاذ محمد عثمان إبراهيم “فرانسيس دينق: عد إلى بلدك”، ونرجو هنا أن نناقش عطاء الدكتور فرانسيس دينق في عجالة.

لعل أبلغ تعبير عن التذبذب في العلاقة بين شطري السودان هو عنوان كتاب المؤرخ العلامة المرحوم محمد سعيد القدال (الاغتراب والانتماء) وفيه مقالات تبحث عن نقاط التلاقي والتنافر التاريخي بين الشمال والجنوب. ففرانسيس المولود في أبيي التي تعتبر منطقة تمازج مثلى بين قومه دينكا نقوك وعرب المسيرية، ظل دائماً مهجساً بظلال الاغتراب والانتماء، متأرجحاً بينهما.

في كتابه “أفريقيون في عالمين: الدينكا في سودان عربي أفريقي” يبدو الانتماء مثلاً في وصفه سمات التلاقي، كما في ذكره وجود ملامح شرق أوسطية في ثقافة الدينكا، وفي سرده دور الدينكا في المهدية حيث “استوعبوا مفهوم المهدية في دينهم. وتم الحديث عن أن روح السماء العظمى “دينق” قد حلت في المهدي الذي صار يعرف مجازا بالمهدي ابن دينق”. بينما بدت ملامح الاغتراب في ذكره ملامح القطيعة مع سودان التركية، والمهدية على السواء.

كما تبدو ملامح الاغتراب في الطريقة التي نظر بها منظر الجنوب الأول للاحتلال البريطاني الذي أثقلت تركته بأفعال كثيرة سيئة للجنوب على رأسها العنصرية البالغة التي كان الإداريون البريطانيون يستبطنونها تجاه الجنوبيين، وقد افتتحوا فرع السوسيولوجيا الإحيائية الذي يبرر تلك العنصرية على أسس علمية كما أوضح بروفسور إدريس سالم الحسن، وكانت كتابات أساتذة الإثنولوجيا البريطانيين مغرقة في احتقار الجنوبيين، وللغرابة، فإن دينق وكثير من الجنوبيين تغاضوا عن ذلك ولم يذكروا للبريطانيين سوى الخير، وقد أوضح الدكتور محمد إبراهيم الشوش في مقالة نقدية لكتابات الدكتور فرانسيس دينق، تلك الخصلة بشكل واضح وصادم..

من ملامح الانتماء سعي د. فرانسيس دينق الحثيث في أعماله الروائية والبحثية وتجميعاته الميدانية عن الدينكا في الغالب، لإيضاح عمق المكون الإفريقي في الشمال، وملامح المكون المتوسطي في ثقافات النيليين مؤكداً أن الشقة الثقافية ليست بالحدة المتصورة.. حتى أنه في رواية “طائر الشؤم” جعل بطله المسيحي “إلياس” ابن زعيم جنوبي بينما والده الحقيقي شمالي، فالسحنات في الحقيقة متقاربة ولكن التصنيف قائم على الوهم. هذا الوهم تتبعه دينق في كتاباته كثيراً، من ذلك دراسته بعنوان: “الأخضر هو لون السادة”. وفيها تحدث عن تراتبية اللون في السودان بأثر من إرث الرق في السودان، وقد جاء بكتابات لشماليين تذكر كيف يتحاشى السودانيون الإشارة للون الأسود ويفضلون “الأخضر”، وكيف يأتي لون البياض “الأصفر” في المقدمة، ثم يربط ذلك بالرق ويدعو إلى تحرر السودانيين من عقدة الرق واعترافهم بأفريقيتهم والتخلي عن أوهام العروبة. وهي رؤى مختلف عليها بالطبع لكنها محاولات جادة في رسم هوية سودانية مشتركة، وإن كانت تأتي من منصة الوحدة الهجين، وهي منصة عاطفية ينبغي للسودان حتى بعد انفصال الجنوب مغادرتها للتأكيد على التعددية والتنوع كأساس لوحدة تبنى على المواطنة المتساوية.

الشاهد، مباشرة بعد انقلاب الشؤم الإنقاذي تحولت مداخلات د. فرانسيس دينق لتقر في محطة الاغتراب، فقد جاء نظام عنصري غوغائي غشوم يتاجر بالدين ويرفع شعارات جهادوية قصفت السماء ودكت الأرض تحت الجنوبيين. إن حروب الإبادة بدأت هناك، صار الجنوبي مواطناً من الدرجة العاشرة.

لم يكن دينق وحده الذي وقع في جب الاغتراب، ففي أكتوبر 1993م أجمعت كل فصائل المعارضة الجنوبية على مطلب تقرير المصير في إعلان واشنطن تحت رعاية السناتور هاري جونستون.

طغى الاغتراب في كتابات دينق ليس بدءاً بخطة العمل التي قدمها لمؤسسة برووكينق الأمريكية في 1992م والتي قال فيها: خطأ البريطانيين القاتل هو أنهم حينما انسحبوا من السودان لم يقيموا حاجزاً دستورياً ليفصل شمال وجنوب السودان من بعضهما. ولا انتهاء بكتابه “صراع الرؤى” الذي قال فيه إنه ما من سبيل لوحدة إلا لو تخلى شماليو السودان عن وهم العروبة. فمع ازدياد وتيرة الإبادة والتحقير العنصري يمم دينق شطر الانفصال، وهي ردة فعل أقل من طبيعية.

وبنهاية تسعينيات القرن الماضي كان النظام المباد قد أفلح في استخراج البترول، مما شكل عاملاً أساسياً في تغيير السياسة الأمريكية، وحينها طلبت وزارة الخارجية الأمريكية من مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية (CSIS) دراسة وضع السودان، وشارك دينق ضمن خمسين باحثاً أعدوا الدراسة وقدموها للإدارة الأمريكية في فبراير 2001م، وهي الدراسة التي شكلت رأس الرمح في تغيير السياسة الأمريكية تجاه السودان إذ أشارت لأن تغيير ميزان القوة العسكرية في الحرب سوف يتحول بشكل جذري لصالح الحكومة السودانية على حساب الحركة الشعبية. وأوصت بالتدخل الفعال الذي تم بتعيين مبعوثٍ خاصٍ للسودان هو السناتور جون دانفورث الذي زار البلاد لأول مرة في نوفمبر 2001م، ثم تغير مناخ المفاوضات ببروز رافع أمريكي يعمل بالجزرة وبالعصا ويقدم البروتوكولات الجاهزة وصولاً لاتفاقية سلام نيفاشا. الاتفاقية التي جعلت الانفصال حتماً محتوماً، إذ خططت للدقرطة وللوحدة الجاذبة بينما وطدت لحكم المؤتمر الوطني المخاتل والظالم فأطاح بالسلام وبالتحول الديمقراطي وجعل الوحدة منفرة لغالبية الجنوبيين الساحقة ففروا لدى الاستفتاء في 2011م من الوحدة فرارهم من الأجرب.

إن مشاركة دينق هنا تتسق مع حقوق قومه المشروعة، بل كل السودانيين كانوا ينفرون من حكم البغي الإنقاذي ولو قدر لكل منهم أن يقرر مصيره لفعل.

قد نتفق مع بعض ما قيل حول تقييم أعمال دينق الأدبية باعتبارها مانفستوهات سياسية، وقد نأخذ عليه كونه كان ضمن انتلجنسيا الشمولية المايوية، وقد أوضح المرحوم المستر غراهام توماس في كتابه (السودان: موت حلم) كيف كان دينق انعكاساً للدعاية المايوية حول الأحزاب والطائفية وزوالها، ولكننا نختلف تماماً مع تقييم عطائه مجملاً باعتباره عدائي للشمال تماماً كعداء أبواق النظام البائد للجنوب وعلى رأسهم ذلكم العنصري ذابح الثور الأسود، وهم قد سعوا بعنصرية بغيضة للخلاص من “الحية” ثم أذنابها في الجنوب الجديد متحدثين عن اختلافات بالغة بنوا عليها تراتبية عنصرية بغيضة.

أما دينق فقد تأرجحت رؤاه بحسب السياسة، وقد حاول بداية بناء الوحدة على وصف المتشابهات كما تتبعنا، بل إنه حينما عزم كتابة سيرة والده الناظر دينق مجوك استنطق ناظر المسيرية بابو نمر الذي علق متحسراً: انت كتبت عن ابيك فمن يكتب عني؟ وكانت النتيجة إرضاءه بتدوين سيرته وإصدار كتاب بابو نمر يتكلم.

لقد عاش فرانسيس أفضل سيرة تحت رايات السودان الموحد، لكن وكلما توغلت أيديولوجيا الإنقاذ كلما غمرته محيطات الغبن وابتعد عن رؤاه الوحدوية، وهو هنا إنما أقر صحة المثل: البِعِد ولا البلاد ام سِعِد، فلا يقارن بما فعلته أبواق الإنقاذ الزنيمة التي وطنت للسعد وجزت غيره في البلاد.

نقول لفرانسيس دينق: حبابك، حبابك. لقد بدأنا في إزالة السعد.. وبلادك الأولى مشتاقة لكونفيدرالية إن عزت فلا أقل من لقاء محبين.

وليبق ما بيننا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى