للأفندي حول الهوية (3)

رباح الصادق تكتب :

ناقشنا على مدى حلقتين ماضيتين ورقة للدكتور الأفندي بعنوان (أوهام الهوية السودانية وصراعات الأدلجة: أوهام من.. وانتحال من؟) قدمها لسمنار سايبري عرض فيه أفكاراً يزمع نشرها في كتاب يعمل عليه، فتطرقنا لمنهجيته، ولفرضيته، ولتعليقاته حول الاستمرارية والانقطاع في تخلق الهوية السودانية، ونواصل اليوم حول قضايا متفرقة.
(10)
حول الوهم والانتحال في وصف خطاب الهوية: لقد صار من المعروف أن الهوية مثلها مثل كل ما هو ثقافي مرتبطة في دافعيتها والتعبير عنها بالسياق الذي تتخلق فيه، وأنها قابلة للتحوير والتغيير.
وفي نقاش علاقة الهوية بالإثنية نهجان، نهج الأصول Primordial الذي يركز على الأصل المشترك، ونهج عملي ذهني الطابع (مخلوق) يشتمل على تمارين لإعادة بناء الماضي ولو بالتحوير، وإعادة تعريف الأوضاع لتفسير الحاضر ورسم الإستراتيجيات المستقبلية. بالنسبة للنهج الأصولي، يتتبع الناقد السعودي المنير عبد الله الغذامي استحالة الحديث عن إثنية ذات أصل مشترك، وأن خطاب الهوية كخطاب (الحلم الأمريكي) ينتج عن قصة مصنوعة. وأقول: لا ضير، ربما لا يمكن بناء دولة بدون نوع من الخطاب المصنوع الذي يتجاوز العرقيات البدائية نحو (حلم مشترك) وإلا فسوف نفتح الباب للتشظي اللا نهائي في بلاد كبلادنا، أنظر/ي مقالة فرانسيس فوكوياما “ضد سياسات الهوية: القبائلية الجديدة وأزمة الديمقراطية، 2018م”.
نحن دائماً بحاجة لإبداع خطاب للهوية تكون من مهامه الأولى: بلورة أسس الانتماء المشترك بصورة ترضي الجميع، تجاوز التصورات العرقية في بلد متنوع وتحقيق المساواة في المواطنة، الانتقال من خانة التنوع (أي مجرد الاعتراف بالاختلافات) إلى خانة التعددية أي سياسات العدالة بشقيها: الهيكلي (السلطة والثروة)، والثقافي (الإعلام، التعليم ومناهجه، خطاب القيمة، الخ)، هذا لا يتم إلا بفعل مقصود، ولا ينبغي كذلك أن يغفل نوعاً من المركزية الثقافية وخطاب الوطنية الذي يقف عند حد الثقة بالنفس، ولا يتعدى للإساءة للآخرين. هذا لا أسميه الوهم والانتحال: بل الخلق والإبداع.
(11)
بالرغم من مطالبتي باتخاذ تعريف للهوية يرى الجميع فيه وجههم، إلا أنني أتفق تماماً مع دكتور الأفندي أن الهوية أمر طوعي لا قسري، فنحن إذ ننادي بالعدالة والمساواة في المواطنة لا نقول كل السودانيين عرب أو نوبة أو نوباويين، أو بجا أو زنوج، بل نقول بالعدالة بينهم على قدم سواء.
وبرغم ذلك أجدني أنشد إعادة صياغة تساؤل الأفندي حول دواعي البعض لأن يهجر عرب السودان عروبتهم التي هي مجرد وهم والواجب تخليهم عنه لتيسير التعايش مع إخوانهم الأفارقة. فهو يرى في أن أصحاب تلك الفكرة يستبطنون عنصرية، وبتعبيره: “هذا الافتراض ينضح عن عنصرية مركبة، فمن جهة كأنه يقول لو كان السودانيون عرباً بحق لحق لهم أن يتكبروا على إخوانهم الأفارقة ولكن لو أنهم اعترفوا بأفريقيتهم المتواضعة فإنهم يتخلون عن كبرهم وتبجحهم”. وهو منطق يعضده تحليل دكتور عبد الله علي إبراهيم في “الآفروعروبية أم تحالف الهاربين”، ونقده لنحلة الأفريقي النبيل التي يعتنقها الآفروعروبيون ولا ترضي الأفارقة، فاضحاً لها في بيت المجذوب الشهير: “طليق لا تقيدني قريش بأنساب الكرام ولا تميم” فالأفريقي لديه يمشي سداح مداح لا شيء يقيده. بينما دارسو المجتمعات الأفريقية يصفون القيود الجبارة التي تضعها الثقافة على سلوك الأفراد فتصكهم في صكها.
والمنطق مع صحة أركانه إلا أن أسباب ذلكم العوج ظاهرة ومعلومة في إطار الغبن الحالي. فليس في تلك الثقافات نفس القوة لفكرة النسب، مثلاً الدينكا يطلقون على أنفسهم اسم جيينق Jieng أو مونجانق Monjaang (أي بشر البشر)، ولا سلاسل نسب، والأمريكيون لديهم فكرة (الحلم الأمريكي) التي تربطهم بإرث من العزة بلا نسب متحد. ولكن خطورة الحرص على الأنساب لدى العرب ولو اختلاقاً أنها تضمر التعالي على من لا يملكها. وكما قال الغذامي: “بعضنا يملك قصة تاريخية تحقق له المطمح الكبير في جعل سلالته في الانتساب سلالة في المجد أيضاً، ونرى بعضاً آخر لا يملك مثل هذه القصة”، ويحدث ذلك في سياق تتحكم فيه ذهنية النسب العربي. لقد اعترف لي أحدهم من قبيلة أصلها غرب أفريقي وسماتها أشبه بمستعربي شمال السودان وقال إنه حينما يسأل عن قبيلته يقول إنه جعلي لئلا ينظر إليه بدونية! فاختلاق نسب عربي إن كان ينم عن تلبس عنصري فصاحبه ضحية لثقافة عنصرية لا قبل له بها وبعتوتها تلفها مفاهيم مدبجة في ثقافة المجموعات المستعلية تدبيجاً، والمأساة أنها هي الجماعات ذات الحظوة الاجتماعية والسلطوية والثقافية، ومن هنا جاء الغبن. إني إذ أنكر تلك الدعوات مع الأفندي فالهوية لا يمكن فرضها قسراً، لكني أصفها بأنها عرض لمرض العرقية والعنصرية المتفشي لا المرض ذاته، والذي لا بد من استئصاله توافقاً مع متطلبات الوطن والدين والإنسانية.
(12)
لا تزال لدي العديد من الأفكار حول رؤى مفكري البعث العربي الأخيرة خاصة الأستاذ عبد العزيز الصاوي وزميله المرحوم محمد علي جادين، ونقدهما لفكرة السودانوية أو ما سماه الصاوي ب(مدرسة السودانية الشكلية) ووصفهما للعروبة السودانية، والتساؤل هل بعد كل المياه التي جرت تحت جسر الهوية وغبائنها يمكن أن يقبل الجميع بفكرة العروبة الجامعة ولو بتحوير سوداني؟
وهناك ما ينبغي نقاشه حول اتخاذ بعض مفكري اليسار العرقية باباً لفرض العلمانية، وأبلغ التجليات في مداولات جوبا الأخيرة وصيحات د. محمد جلال هاشم من منبر جماعة عبد العزيز الحلو بنقض السودان طوبة طوبة للبناء على الأساس العلماني. فوكوياما يرى من بين أسباب صعود القبائلية مؤخراً أن اليسار الأمريكي نفدت القضايا التي تعبئ الناس من بين يديه فتبنى حركات الهوية كوسيلة جديدة للتعبئة! ويبدو أن يسارنا بعد أن باخت أطروحاته العلمانية نظرياً، لا يجد مطية يركبها اليوم نحوها سوى العرقيات.
(13)
نقاش خطاب الهوية المتعلق بالمصالح والأيديولوجيا والسياسة متشعب. وأتمنى على دكتور الأفندي الاهتمام بتخلق الهوية على خطين: خط الوعي بالهجنة العربية الأفريقية الذي سارت فيه مدارس النخبة واصفة لملامح الهجنة في الثقافة المركزية كما تبدت في أم درمان وأنشطتها الثقافية والاجتماعية والسياسية، وخط الوعي بالتنوع وبالغبن وقد سار على خطى ومارشات الرفض المسلح في المناطق المهمشة. فمدارس المثقفين اهتمت بالتنظير لملامح الخلاسية في الثقافة الوطنية المعلومة، وبنادق المقاومة اهتمت بلفت النظر لوجود مغاير لم يكن قد دخل خارطة الإدراك الوطني بعد.
وليبق ما بيننا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى