عالِجوا جراحَنا معرفياً

أبدأ بتحية (الصيحة) في ثوبها الجديد، بعد أن نزعت من أكتاف (قوى الردة)، واغتسلت في يم الثورة الطهور، وقد غبتُ عن الكتابة في الصحف منذ 2014م، وقد صارت الكتابة ضرباً من ضروب إتقان السنسرة الذاتية، وتمريناً في الإذعان لمقص الرقيب الذي يفوق توقعات الكاتب/ة وقدرته/ا على تجنب المظنون في أنه ينغص الكجر وأذيالهم في الصحف. 

وأبدأ في هذا المقال الافتتاحي بمناقشة أمر علاج جراحنا المريرة.

إن الشعب السوداني وقد حقق الخطوة الأولى في حلمه بإزالة طغمة “الإنقاذ” الخاطئة لا يزال يعاني جراحاً عميقة، ويعد تطبيبها مهماً لكي يجد في مهمة البناء.

قديماً قال المتنبي: لولا المشقة ساد الناس كلهم/ الجود يفقر والإقدام قتال. ولذلك فإن سجل هذا الشعب المذهل في البسالة ليس بلا ثمن. لقد دفعها دماء عزيزة “كاش داون”، فسقط الشهداء من فلذات أكباده، ولا يزال يدفع الثمن اضطرابات أو كرب ما بعد الصدمة.

إن أحداث السفك والإذلال التي حدثت منذ جريمة الثلاثين من يونيو 1989م والشهداء الذين سقطوا حتى تفجر الثورة المجيدة في ديسمبر 2018م وشهداءها وضحاياها ثم الاعتصام الباسل وغاراته حتى الثالث من يونيو 2019م وما بعده هي أحداث يشيب لها الولدان. وما لم يتم مجهود لبرء الدمامل فإن هذا الشعب سوف يعاني طويلاً، وسوف يظل جزء مقدر منه ينظر للأحداث من حوله بغير قدرة كبيرة على العطاء المطلوب.

إن حروب الإبادة في دارفور ومن بعدها جبال النوبة والنيل الأزرق وما خلفت من قتل واغتصاب ونزوح ولجوء وغيرها، قد غرست في مجتمعات الحرب غبناً وصدمات فاقمها قبر الإعلام لمعاناتهم. والثلاثون عاماً من الإذلال و”إعادة صياغة الشعب السوداني” وفق مشروع ليس بحضاري اعتاد ذم السودانيين وإهانتهم وحاول تنصيب العاهات فوق رؤوسهم، وتعذيبهم وابتزازهم وتشريدهم في أركان الدنيا الأربعة إلى آخر استراتيجية القهر المذل التي طبقوها قد خلقت غضباً وحقنت في الشرايين تمرّداً وهجّرت الشباب بالملايين. وقد كان في الاعتصام التاريخي مولد حلم ضخم، يؤذن بمسح جراح الحرب والفساد والدكتاتورية والقهر وبعودة الطيور المهاجرة لتبني، فقد تخلّق مولود من رحم الشعب، مولود نبيل، معطاء، متنوع، تقدمي، عادل، فنان، جميل ومسؤول يجد فيه كل السودانيين مهما كان منشؤهم وجههم ساطعاً متألقاً على مرآة الاعتصام.

إن فض الاعتصام بتلك الطريقة الوحشية لا يحصى بقدر الدماء، وليس للدماء ثمن، لأنها دماء كانت ترسم على وجه البلاد مستقبلاً زاهياً. لقد كانت محاولة لوأد أمة وُلدت وبدأت تنطق بكلمات تاريخها وحاضرها ومستقبلها وآلامها وآمالها. إنها جريمة العصر في السودان. 

إن التعامل مع ذلكم الجرح بحنكة أمر ضروري وشرط لازم لاستئناف الحياة. إن ما أصاب الشعب السوداني جراء تلك “الكسرة” يحتاج إلى “جبارة” معمولة بحب وبعدل وبحق.

قديماً سمى السودانيون كرري في 2 سبتمبر 1898م بـ”الكسرة”، وقد عاث كتشنر فيها بأم درمان فساداً فاستباحها لثلاثة أيام فعل فيها كل الفظائع، وظل يعمل سنوياً على مسرحة معركة كرري على سفوح جبل سرغام استرجاعاً للحظة “الكسرة” ليفت عزيمة السودانيين ويذكرهم بجبروته المارد. 

قال الشاعر الضخم المرحوم محمد المهدي المجذوب إن إبداع شعراء المديح السودانيين وغرقهم في محبة نبوية تطهرية وحزينة هي من آثار تلك الكسرة. ومصداقاً لقوله فإن أحد أهم شعراء ذلكم الزمان ولعله أبدعهم، الشاعر أحمد ود سعد، لم يكن قد حضر كرري لأنه كان محبوساً بسبب الرمد، فلما خرج ووجد ما حصل قد حصل ناح في نشيده الباكي: السادة الخيرة فاتوني وبقيت في حيرة، ومن ثم انصرف نحو المديح النبوي بكثافة وإبداع. 

إن آثار كرري على نفسية السودانيين استمرت لعقود طويلة، وربما حاولوا البرء منها لاحقاً باستلال النصر من براثن الهزيمة فتغنى حاديهم: “ما هان فرسان لنا بل فر جرح الطاغية”.  ومعلوم أن الحروب والأحداث الكبيرة تؤثر ليس فقط على الأفراد المشاركين فيها بل على كامل المجتمعات. وتستمر آثارها لمدى أجيال عديدة ترث الصدمة وبصمتها.

لقد طور علماء النفس الكثير من الأساليب والمدارس المتخصصة في علاج اضطراب ما بعد الصدمات واضطرابات الحروب، منها العلاج المعرفي أو ما يُعرف “Cognitive Therapy” أو العلاج المعرفي السلوكي “Cognitive Behavioral Therapy”، وكلاهما يقوم على تغيير أفكار وسلوكيات المريض السلبية وتحويلها إلى أفكار أكثر إيجابية متصالحة مع الواقع، وإن كانت تلك العلاجات تستخدم مع الأفراد والجماعات التي تعرضت للصدمة مباشرة. فإننا نطالب بعلاج معرفي يخضع له الشعب كله، ولنا في تجربتنا سابقة حسنة.

فحينما تفجرت انتفاضة السادس من أبريل 1985م كان الشعب السوداني قد خاض دكتاتورية صماء على مدى ستة عشر عاماً، ومع أن نظام مايو قد تخصص في سفك الدماء إلا أنه استهدف شرائح دون غيرها كالأنصار ثم الشيوعيين ثم النقابيين مما جعل كثيرين لا يدركون مدى سوئه حتى جاء بقوانين سبتمبر التي سماها بنفسه “الشريعة البطالة”، ثم انفجرت الأوضاع الاقتصادية فالتقى الحق بالجموع وانتصرنا. وحينها، أي بعد الانتفاضة المباركة، التفت المرحوم الدكتور فضل الله علي فضل الله وقد كان وزيراً في حكومة الديمقراطية الثالثة، لما خلفه ذلك النظام الغشوم على نفسية الشعب الذي نازله، فكان يبث برنامجاً راتباً على موجات تلفزيون السودان، يخاطب فيه حالة الخوف التي زرعها النظام، وكيفية التخلص من فكاك وآثار خطاب الشمولية وسياساتها المتخذة لتدجين الشعب، كان يخاطبنا بشكل أقرب لعلاج معرفي لشعب بأكمله.

إن الحاجة الآن أكبر بما لا يقاس لمثل تلك المعالجة المعرفية التي تبث إذاعياً ومرئياً. وينبغي أن يهتم المختصون في علم نفس الشعوب لدينا، أو علم نفس الجماعات، ببلورة أنواع من المعالجة المعرفية للفكاك من آثار التدجين وإعادة الصياغة الإنقاذيتين، والأهم من ذلك لعلاج آثار الاضطرابات ما بعد الصدمة للجماعات أو لشعب بأكمله. فما حدث للشعب السوداني كان معاناة طويلة الأجل متعددة الأوجه على يدي دكتاتورية متوحشة هذه المرة تبطش وترهب الجميع دون فرز، وقد تعددت فيها القطاعات المتضررة: المتعرضون للسجون والتعذيب، المفصولون، مهجرو السدود، النازحون، المغتربون، اللاجئون، المجتمعات المهمشة، المغتصبات والمغتصبون، المستمالون بالابتزاز والترهيب، بل كامل قطاعات الشعب التي ظلت تعاني طيلة ثلاثين عاماً وتنمي غضبها ورفضها حتى انفجرت الثورة، وأخيراً المجتمع السوداني كله بالداخل والخارج الذي صُدم جراء أحداث الثالث من يونيو.

إنني أكتب ذلك منطلقة من معاناة خاصة، لأني وإن كنت لم أحضر لحظة فض الاعتصام إلا أنني مررتُ باضطراب ما بعد الصدمة بشكل حاد بعد تلك المذبحة النكراء، مما جعل كتابة هذا المقال ذاتها تمريناً في المعاناة وبهلان المآقي. وأعتقد، وفق محادثاتي وتفاهماتي مع عديدين حول الموضوع أن السودانيين جميعاً، إلا ربما القتلة ومن شايعهم، قد مروا بشكل من أشكال اضطراب ما بعد الصدمة جراء الثالث من يونيو. إن جروح مثل تلك الأحداث لا يمكن أن تبرأ بالتقادم، إنها تحتاج لمعالجات مهمة، فبدون معالجة صحيحة لما حدث فإن امتداداتها وذهنية المذبحة التي تعشعش خيالاتها في رؤوسنا سوف تحطم الآمال في مجتمع متماسك وفي مصالحة وثقة وتعاون حقيقي لبناء الوطن المأمول.

المصالحة وبناء الثقة مفهومان مختلفان ولكنهما مترابطان لذلك صارا كأنما رديفين، هذا من جهة. ومن جهة أخرى فإن مفهوم المصالحة نفسه صار قريناً ومترابطاً مع العدالة. إذ أن المصالحة الفوقية التي تأتي بدون مساءلة أو ذكر لتجاوزات الماضي خاصة الشنيعة منها تكون هشة ولا تصلح. والعدالة والمصالحة أساسيان في مجتمع ما بعد الصدمة أو النزاع. على صعيد آخر فإن بناء الثقة مرتبط أيضاً بالعدالة، ويمكننا أن نفرق بين العدالة المرتبطة بالمصالحة من جانب، وهي التي تتطرق لمظالم الماضي وتجاوزاته وكيفية إبراء جروحها. بينما العدالة المرتبطة ببناء الثقة هي التي تخاطب تطلعات المستقبل مثل عدالة وتساوي الحظوظ في التنمية والحكم (ما يسمى بقسمة الثروة والسلطة) وتقوم بتحقيقها. وسوف نتطرق لتلك المفاهيم ومقتضياتها في كتابات لاحقة بإذن الله، لكننا الآن نؤكد فقط على تفعيل العدالة الانتقالية وسن قانونها والبدء في عمليات المساءلة والمصالحة وبناء الثقة.

وحتى لو تمت هذه الإجراءات العدلية الضرورية، تتبقى المعالجات النفسية المعرفية ضرورية جداً، وهذه دعوة لرئيس وزرائنا الدكتور عبد الله حمدوك وبعض وزرائه الذين عرفناهم بين صفوفنا منافحين عن حقوق الإنسان السوداني، ناطقين بآلامه وآماله أن يبحثوا من هو/هي الأصلح لتبني جلسات المعالجة المعرفية المبثوثة، ليقلدوه/ا تلك المهمة المطلوبة بإلحاح.

وليبق ما بيننا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى