حول العلمانية: الشعب سيد نفسه

لفت نظرنا تسجيل مصوّر للصديق القديم د. محمد جلال هاشم يتحدث عن متاعب الحركة الشعبية لتحرير السودان شمال بقيادة عبد العزيز الحلو في التفاوض، ويصف مدى تمسك شعب الأراضي المحررة بالسعلمانية التي طبقت فيها منذ 2011م، والأمان بل و(النعيم) الذي يعيشه ذلك الشعب، ويسمى عندهم بالعلمانية،  وللدفاع عن العلمانية ساق حججاً، منها:

  • هناك 46 دولة نسبة المسلمين فيها تفوق الـ95% ويكتب في دستورها أنها دول علمانية، مثلاً أوزبكستان، وطاجكستان.
  • دولتنا التي فككها الإسلاموعروبيون وأشعلوا الحرب فيها في كل مكان  ينبغي أن ينص على تسميتها بداية بجمهورية السودان العلمانية.
  • كل من يظن هذه ليست قضية أساسية هو إما إسلاموعروبي أو من خلايا الإسلاموعروبيين النائمة وهم أشد خطراً من الأوائل.
  • تحت العلمانية عاشت الأراضي المحررة العدالة المطلقة ومنتهى الأمان جازماً بأن الأراضي المحررة هي المنطقة الوحيدة الآمنة الآن في كل السودان.
  • إن شعب المنطقتين عندما يتمسك بالعلمانية فإنها ليست كرتاً تفاوضياً أو ضغط مثقفين بل العلمانية هناك شوق شعبي، و(مستوى من الوعي المدني في كل السودان ما موجود) اللهم إلا في بعض مناطق حركة تحرير السودان جناح عبد الواحد وجناح مني، حيث لعبا دوراً كبيراً في توعيتهم بأهمية العلمانية في بناء الدولة الوطنية الجديدة.

لذلك أكد أن الحركة الشعبية تضع العلمانية في مقابل تقرير المصير، ولا تستمع للتحذيرات من أن الانفصال سيسفر عن دولة فاشلة، فالسودان دولة فاشلة (والحكومة الفاشلة تلد حكومة فاشلة)، والدولة الناتجة عن تقرير المصير ستكون فاشلة لكنها دولة علمانية ستكون أفضل من السودان، حيث لن تأبه لقضايا فارغة كلبس النساء وشرب الخمر، والجنوب اليوم فيه حرية و(قدام البيبسي توجد قزازة بيرة)، ونريد أن نكون كبقية شعوب الأرض.

يهمنا هنا نقاش ما جاء حول العلمانية شرطاً للوحدة أو للسلام وبالعدم تقرير المصير:

أولاً: يتحدث جلال بأن الشعب وراءه في المطالبة بالعلمانية التي لا يرفضها إلا الإسلاموعروبيون القراح أو خلاياهم النائمة. بينما شرح في ثنايا حديثه أن الاقتناع بالعلمانية الموجود في الأراضي المحررة غير متاح في كل السودان ما عدا مناطق نفوذ حركتي تحرير السودان. فهذا اعتراف بأن الاتجاه للعلمانية  محدود ضمن منسوبي الحركات المسلحة ذات الصبغة العلمانية. بالتالي فإن حديثه بأن الشعب وراءه في العلمانية غير صحيح، ولا شك أن دعوة العلمانية في السودان أقل ما يقال عنها إنها مسألة خلافية، إن لم تكن حائزة على رفض شعبي عريض. صحيح هناك من أبالسة قوى الردة من يجرم العلمانية ويشيطن أصحابها بدلاً عن اعتبارها فلسفة أقليات لأصحابها الحق في الدعوة إليها كالآخرين، تماماً مثلما يشيطن جلال شعار الإسلام والعروبة في السودان.

ثانياً: يقول جلال إنهم قدموا تقريراً فيه 46 دولة نسبة المسلمين فيها أكثر من 95% وتنص في دساتيرها على أنها علمانية. الدول التي فيها أغلبية المسلمين 95% أو أكثر حوالي 21 دولة غالبيتها تنص على إسلامية الدولة أو أن الإسلام هو الديانة الرسمية، دولتان فقط منها تنص على العلمانية هي العراق وطاجسكتان. والدول ذات الأغلبية المسلمة بنسب متفاوتة حوالي 53 دولة، التي تنص على العلمانية عشرون منها: طاجيكستان (نسبة المسلمون 97%)، العراق (97%)، السنغال (94%)، جيبوتي (94%)، أذربيجان (93%)، كوسوفو (90%)، مالي (90%)، غامبيا (90%) النيجر (90%)، تركمنستان (89%)، تركمانستان (89%)، بنغلاديش (89%)، أوزبكستان (88%)، غينيا (85%)، قرغيزستان (75%)، تركيا (73%)، ألبانيا (70%)، كازاخستان (70%)، تشاد (54%)، بوركينا فاسو (50%). وذلك في مقابل 30 دولة ذات أغلبيات مسلمة تنص على إسلامية الدولة أو أن الإسلام هو الديانة الرسمية. ولا توجد ولا دولة نسبة المسلمين فيها مثل نسبة السودان أو أكثر (98%) تنص على العلمانية في دستورها. 

رابعاً: قال جلال نريد أن نكون مثل بقية شعوب الأرض، ذاكراً إباحة الويسكي مثلما البيبسي في الجنوب. علينا أن نبحث قضيتنا مع الدين ومع الخمر بطريقتنا فليس لشعوب الأرض طريق أحد صمد. في العالم الإسلامي دول كثيرة تحرم تداول الخمر على أسس دينية، وفي الهند الأرواحية هناك محافظات تحرمها، بل حتى الولايات المتحدة الأمريكية التي يخيل للبعض أنها جنة الحرية بأنهار خمرها فقد حرمت أمريكا بيع وصنع وشراء الكحول تماماً عبر التعديل الدستوري رقم 18 في الفترة 1920م وحتى 1933م، وذلك لارتباطها بالجريمة والفساد السياسي، ثم تراجعت عن المنع للفشل في تحقيق أهدافه إضافة للأزمة الاقتصادية العظمى، وكذلك فعلت دول أوربية وعادت عن حظرها. وأدعو المستزيد الرجوع لمقال موحٍ كالعادة للعالم الكيني الأمريكي الراحل علي مزروعي بعنوان: “الإسلام بين صدام ووئام الحضارات: العلاقات المتغيرة بين العالم الإسلامي والولايات المتحدة”، 2007م. وصف فيه كيف كانت القيم شبه متطابقة بين العالم الإسلامي وأمريكا في النصف الأول من القرن العشرين فيما يخص الأخلاق المتعلقة بالجنس، والأدوار الجندرية، وعقوبة الإعدام، واستهلاك الكحول، بينما كانت العلاقات بين العالم الإسلامي والأمريكيين بعيدة، ثم انعكس الوضع لاحقاً.. الشاهد، هذه قضايا لا يجدي فيها تتبع شعب أو شعوب العالم، إننا مختلفون، وكلنا نتغير، وينبغي أن يكون تطورنا وفق معادلة تستجيب لاحتياجاتنا ومستجداتنا وتحترم ذاتيتنا وشخصيتنا الثقافية لا أن نتبع أحداً. وبعيداً عن التغييرات في القيم الأمريكية التي ذكرها مزروعي، لا زالت هناك مقاطعات عديدة في الولايات المتحدة تفرض تجفيف الخمر Dry counties، فمن بين الولايات الأمريكية هناك 33 ولاية تتيح لمقاطعاتها أن تسن تشريعات تحرم التداول في الخمر عبر استفتاء أو غيره من الوسائل التشريعية، في مقابل 17 ولاية فقط لا تتيح لمقاطعاتها تحريم تداول الخمور بأي شكل. ولذلك مثلاً فإن ثلاث من مقاطعات ألباما الـ67 جافة تماماً الآن، أي تحرم التداول في الخمر صنعاً وبيعاً، و34 مقاطعة من بين 75 من مقاطعات ولاية أركنساس جافة كذلك، وهكذا. وهناك مقاطعات أمريكية تمنع الكحول يوم الانتخابات، ورغم فصل الدستور الأمريكي بين الدين والدولة لكن هناك عدة  ولايات تشترط أن يكون المرشح مؤمناً وتمنع التصويت للملحد، مثلاً، تكساس وكارولينا الشمالية وكارولينا الجنوبية وميسيسيبي وأركانساس.

علينا ألا نربط بين السلام وشروطه ورؤى أيديولوجية إسلامية أو علمانية أو قومية عربية، أو أن نسعى لنكون مثل شعب أو شعوب أخرى، لنشترط الديمقراطية والعدالة والمساواة والمواطنة، ولنترك شعب السودان يقرر فيما بعد كيف يصف نفسه بنفسه، وبكلمات شاعرنا حسن طه: الشعب سيد نفسه وهو العليم ببأسه/ عهد الوصاية قد مضى كل يعوس بعوسه.

وليبق ما بيننا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى