العلمانية أو “سماية الدولة” (2-2)

 

خليها يا مستور (توافقية)

رباح الصادق المهدي

أثبتنا في المقال الماضي أن نقاش علاقة “الدين بالدولة” بين قوى المقاومة الديمقراطية، لم يقف طيلة ثلاثية عقود الظلام، مبتعداً عن المسميات الخلافية، لكن بعضهم محا كلام الليل في النهار، ووعدنا نقاش مسألة العلمانية في السياق السوداني والعالمي.

ثم تداعت نخب خرطومية نحو جوبا تتفق مع الحركة الشعبية جناح كمرد عبد العزيز الحلو على العلمانية. ونادى رئيس التحالف السوداني، القيادي بقوى الحرية والتغيير، المهندس محمد فاروق سلمان بقبول العلمانية “بعد فشل المشروع الديني في السودان”، وأصدر نائب رئيس حزب المؤتمر السوداني السيد مستور أحمد محمد بياناً وزعه إعلام حزبه بعنوان (الموقف من العلمانية) منادياً بها “لأن هناك مشروعاً دينياً وهو أحد الأسباب الأساسية للحرب”، ورفض تأجيل القضية لحين المؤتمر الدستوري وقال “لم تطرح تاريخياً مسألة علاقة الدين بالدولة كقضية عامة تهم الشعب السوداني”.

لقد هبط مستوى التناول الفكري للقضية على نحو بليغ ومؤسف. فاروق ومستور يتحدثان عن مآسي مشروع الإنقاذ الديني كمبرر للعلمانية. والحقيقة أن أبلغ تفنيد لادعاءات النظام المباد كان بأيدي المقاومة على “نهج الصحوة الإسلامية”، وأن الإنقاذ رفعت شعارات جيدة أخرى مثل: نأكل مما نزرع، والمشروع الحضاري، فهل يتبع فشلها الذميم أن نترك الحلم بالاكتفاء الذاتي وببناء حضارة؟

لقد وقف حماري عند عقبة مستور حائراً، فالقضية برأيه لم تطرح كقضية رأي عام. ولكن.. من معركة الوريقة الصفراء التي مزقها الانقلاب المايوي عام 1969م، عانياً الدستور الإسلامي، إلى معركة قوانين سبتمبر 1983م، وسني الديمقراطية الثالثة التي شنت فيها الجبهة الإسلامية القومية حرب رأي عام حامية الوطيس دفاعاً عن قوانين سبتمبر مما جعل الحديث عن (القوانين البديلة) يطغى وبتعبير شاعرنا محمد الحسن سالم حميد الغاضب آناء السيول والفيضانات ودمار الحياة في شمال السودان، في قصيدته (الضو وجهجهة التساب):

الضوْ بكَى

بكَى ما بكَى

بكَّاهُو يرْجعْ لِي ورا

بكَّاهُو رادِي الدنْدَهُوبْ الغادِي

وأم دُرمان تغنِّي .. حبيبتي آه .. وودادي وين .. وحَبيبي وُوبْ !

والباقي كلُّو مقابلاتْ ..

ضِدْ القوانينْ البدِيلَة،

مع القوانين البديلة

اليَسْوَى ما يسْوَى الرَزِيلة

جهنمْ .. الجنَّة .. الفَضِيلة

 

وهي معركة فرضتها الجبهة بالمزايدة فرضاً على الديمقراطية الثالثة. ثم جاءت بانقلابها الذي جعل حياة أمة تدمر متاجرة بشعار صار قضية رأي عام بالدرجة الأولى.

والسؤال: لقد أطحنا أصلاً بدستور النظام المباد، فإذا كان دعاة العلمانية يظنونها مطلباً شعبياً ماساً، فلماذا يتخوفون من المؤتمر الدستوري؟

لقد رش مستور في بيانه بعض التهم على معارضي العلمانية كعدم مراعاة مشاعر الضحايا الذين اكتووا بمآلات المشروع الإسلاموي، وتقديم البرنامج الأيديولوجي والمصلحة الحزبية على المصلحة الوطنية.. لكن ما هي العلمانية بدءاً؟ ومن هم هؤلاء الضحايا إن لم نكن نحن الشعب السوداني وقوى مقاومته الحية كلها؟ وهل يظن السيد مستور أن حركة الحلو هي شعب الهامش وممثلته الوحيدة؟ وهل كانت حربهم دينية؟ وأين مصلحة الوطن في إطفاء حروب الموارد والاستعلاء الإثني وإشعال حروب الإرهاب؟

 

وبعد طوافي على جانب من الأدب الغزير حول العلمانية، وقفت على نشأتها الفريدة في أوربا، وضلال أسطورة ارتباطها الحتمي بالحداثة أو ارتباط الحداثة بها، وبروز مفاهيم جديدة، كالتعددية وقبول الديني داخل منظومة العلمانية (بيتر بيرقر)، ومفهوم ما بعد العلمانية لدى الفيلسوف الألماني الشهير يورغن هابرماس والذي أكدت مراجعاته خطل فكرة أن طريق التطور العلماني الأوربي “الذي كتب العقلانية الغربية فيما مضى بافتراض أنها تخدم كنموذج لبقية العالم بينما هي في الحقيقة استثناء وليست القاعدة” فأوربا هي التي سلكت طريقاً منحرفاً “نحن وليسوا هم الذين يتبعون درباً فريداً: زوندرفيق Sonderweg-“، والزوندرفيق هو درب ألمانيا الخاص للتنمية الاقتصادية المختلف عن بقية أوربا.

نفس الشيء أكده خوسي كازانوفا الذي شرح كيف نبع مصطلح علمانية من المضابط الكنسية في أوربا الغربية أي الدهرية،  وهو تصور لا ينطبق على الكنيسة الشرقية، ولا حتى على الأوربيين المهاجرين في الدنيا الجديدة (أمريكا).

 

إن العلمانية حتى في أوربا نفسها لم تطبق بما يحقق مبادئها المعلنة بفصل الدين عن الدولة. ومن الشواهد تكرر محاولات إضافة المسيحية لمكونات الاتحاد الأوربي. فلدى صياغة دستوره طالب البابا وأيدته دول أوربية بالإشارة للمسيحية في الدستور، وفي النهاية تم النص على “الإرث الديني والإنساني”. وفي 2007م لدى صياغة معاهدة الإصلاح (معاهدة لشبونة لتعديل الأساس الدستوري للاتحاد الأوربي) وعدت المستشارة الألمانية انجيلا ميركل البابا، وكانت حينها رئيسة للاتحاد الأوربي، أن تسعى لتضمين الإشارة للمسيحية ولله في المعاهدة لكنها أخفقت، ولا ننسى أن ميركل نفسها هي زعيمة حزب اسمه “الاتحاد الديمقراطي المسيحي”. وبرغم العلمانية الأوربية السائدة فهناك ثلاث دول أوربية عضوة في الاتحاد الأوربي تنص على دين رسمي للدولة هي: الدنمارك، واليونان، ومالطا.

ولو جلونا النظر في بقية أنحاء الدنيا لتأكدنا من الطبيعة الأوربية للعلمانية، ولفهمنا أكثر خصوصية تخلقها التاريخي في رحم الصراع العلمي والعقلي/ الديني بين آباء التنوير الأوربيين وبين المؤسسة الكنسية المتجبرة التي كانت توزع وصمات الهرطقة وصكوك الغفران، القصة التي صورها ببراعة الروائي الأمريكي دان براون في رواياته خاصة “ملائكة وشياطين”، و”شيفرة دافينشي”.

لقد ناقش أنثروبولوجيون وفلاسفة عديدون تبديات مع بعد العلمانية، وخصوصية العلمانية الأوربية في عدائها للدين، ويمكن للمستزيد الرجوع للكتابات المتأخرة لهابرماس، وتشارلز تايلور، ومراجعات كريق كالهون وتعريفات وتحليلات خوسي كازانوفا، ونقد طلال أسد وويندي براون للعلمانية كمفهوم رسالي ضمن سياسات الكولنيالية الجديدة، فقد لاحظت براون كيف سعى المحافظون الجدد في الولايات المتحدة لتعميد السياسة وفرض الصلوات المسيحية في المدارس الحكومية الأمريكية في الوقت الذي يحاولون إقحام العلمانية على الهندسة السياسية في الشرق الأوسط.

إن الحميد والمطلوب بشدة في إرث العلمانية هو النهج العقلاني العلمي، وإتاحة حرية الفكر والضمير وحرية العقيدة والتعايش بين الأديان، لكن الخبيث فيها ارتباطها بظلال المركزية الأوربية، وبمعارك الكولنيالية الجديدة، ومحاولات الاستيعاب والاستلاب والمقاومة الوطنية والحضارية. تلزمنا الأسس الهادية للعقلانية وإتاحة التعددية الدينية وحرية العقيدة، ولا تلزمنا ظلال الاستيعاب ولا مخاطر التأجيج.

إن النهضة في المجتمعات الإسلامية ليست منوطة بنهج علماني على النمط الأوربي، ولا يتصور إقلاع في بلداننا إلا على خطوط تنويرية تعلي من العقل بتماس مع الذخيرة الوجدانية لمجتمعاتنا بأشكالها المختلفة. والدين إذا انطلقت طاقته الكامنة بالتنوير عامل أساسي في تحرير طاقة شعوبنا، لكنه لو ترك لأيدي القوى الظلامية (ودعوة العلمانية تشكل خرقة حمراء تجعل أولئك المنكفئين يخرجون أنفاثهم ويستفزون عاطفة الشعب الدينية) فإن ذلك سيجعلنا نكرر سقوطنا سيزيفياً.

إننا في مرحلة بناء على خطوط التحازز الفكري والمذهبي والاجتماعي والسياسي العديدة. في مجتمع سمته الأولى استقطابية لدرجة قف (ختمي، أنصاري/ شيوعي، إخواني/ هلال، مريخ/ فونج، فور/ إلخ).. في مثل هذه الحالات لا يجدي أن تسعى أية جهة، سواء حملت السلاح أو وضعت، لفرض رؤاها إلا عبر اثنين: صندوق الاقتراع، أو التوافق في مؤتمر دستوري. والإملاء على شرط الحلو العلماني اليوم لن يضمن ألا يحمل غيره السلاح ليفرض علينا دولة دينية منكفئة بطبعها غداً.

هذه ليست مرافعة ضد العلمانية وبعض أسسها لازمة للنهضة، ولا مع دولة دينية ذميمة قطعاً، فالعلمانية كما في ذهن أخينا مستور لم تطبق حتى في أوربا التي ولدتها من أب ديني سليط، وفصل الدين عن الدولة كائن خرافي لم يحدث في التاريخ. ويمكن لأي متلاعب أن يكتب في النصوص ما شاء (حامل البندقية) ثم ينفذ ما يريد، لكن المرافعة هي ضد القسر والأحادية أياً كان، ومهما كان، ومع الدولة المدنية التوافقية الديمقراطية، وربما كتبنا يوماً ما عن هذه الدولة، وأسسها المرجوة.

 

وليبق ما بيننا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى