د. عمر آدم قبله يكتب : أفئدة الحروف

31يناير2022م 

قلت إن الشاعر قد يفترع القصيدة بمطلع مُختصر من بيت أو بيتين ويكون ذلك الابتدار مشحوناً بالدلالات والمعاني التي تجعل ما تبقى من القصيدة مجرد تفريعات أو شرح أو تمدد في القدرة على الصياغة والحكي والتذويق. فصاحب ديوان “الناصريات” في قصيدته أم بادر نجده يسكب كل مشاعر الدهشة بتعبير محكم وبليغ في أبياته الثلاثة الأولى ثم يذهب بعد ذلك في وصف تفاصيل ما قال بمفردات وجُمل وفواصل يُمكن أن تعبر بدرجة أكبر عن ثراء المَلَكة الشعرية عنده بالإضافة الى سرد مشاهد البيئة المحيطة وسحرها الأخّاذ ثم الانتقال من بيت إلى آخر بسلاسة وسرد مُمتع.

يفتتح الناصر قريب الله القصيدة مسائلاً مدينة أم بادر بقوله:

أي حظ رُزِقته في الكمال * واحتوى سِرُه ضمير الرمال

فتناهي إليك كل جميل * قد تناهي إليه كلُّ جمال

فكأن الحصباء فيه كُراتٌ * قد طلاها بناصع اللون طالٍ

هذه هي البداية التي يدندن بها الكابلي مبتدئاً ومعيداً فيصغى إليها الجميع كواحدة من أروع قصائد الفصحى المغناة.

_ وأم بادر كانت من مدن السودان ذات الصيت في مجال التجارة على طريق الأربعين وهي من المدن القليلة التي تحتضن الأودية مثل مليط وكتم.

فالمدن الثلاث تشتهر بنموِ أشجار النخيل في الجزء الجغرافي الممتد من أم درمان غرباً حتى التخوم التشادية وإنه لمن المحزن حقاً أن تطال يد الإهمال والنسيان منظومة تلك المدن المتناثرة كالدرر ذات زمان على طريق الأربعين (سودري؛ أم خروع؛ أم بادر ومليط) ومثيلاتها. لقد كانت مدناً صغيرة لكنها مليئة بالروعة والحيوية وطيبة معادن الناس.

وأذكر من المدن الصغيرة الساحرة التي تنام على الرُبا وتحتضن الأودية وتتوسد الظلال مدينة (تِنّه). تلك المدينة المشتولة في مجاهيل وفيافي شمال كردفان هي واحدة من أبهى حواضر الريف السوداني الذي تتقاصر دونه أيادي التنمية وخيال أهل القرار. ففي تِنّه تتآلف منظومة الظلال الوارفة والماء العذب وروعة الناس من أهلنا كاجا وبني جرار. وكلما تذكّرت قول محمد سعد دياب “همس المساء الى الروابي والهضاب” أتذكّر مدينة تِنّه وأخريات.

ومدينة أم بادر مشهورة بأنها مقر محكمة الشيخ الهِرديمي وحاضرة بادية الكواهلة بشمال كردفان ولا ينفصل ذكرها عن ذكر آل الأعيسر التي ينتمي إليها واحد من أبرز خبراء الإدارة “الدكتور فضل الله علي فضل الله” رحمه الله. ومن عجائب الصدف أن الناصر قريب الله الذي خلد أم بادر بقصيدة تُعد من عيون الشعر السوداني الفصيح يجمعه الانتماء الأسري بشاعر السودان الكبير محمد سعيد العباسي الذي خلد مدينة مليط ووثق لها كأروع ما يكون التوثيق وينتهي نسب الرجلين إلى الشيخ الطيب مؤسس الطريقة السمانية بالسودان. ولعل أنسب بيت شعر يُمكنه أن يصف علاقة العباسي بمليط وعلاقة الناصر بأم بادر قول أمير الشعراء وصاحب الشوقيات..

قد يهون العمر إلا ساعة * وتهون الأرض إلا موضعاً

* ومن الاستهلالات الشعرية الباهرة التي يبدو فيها الشاعر وكأن الحيرة تتملكه تماماً افتتاحية الشاعر الكبير ابن مدينة الجنينة مولداً ونشأة محمد مفتاح الفيتوري يوم استهل قصيدة ينتظرها جمعٌ من عشاق الشعر وروادهِ وناقديه.

بـ”لم يتركوا لك ما تقول” ..

أعجبني تعليق أحدهم وهو يقول كأن الفيتوري في هذا الموقف يشبه عنترة يوم قال:

هل غادر الشعراء من متردم؟؟

وذهب القائل إلى ما معناه أن عنترة بعد ذلك الاستهلال القلق قدم لديوان الشعر العربي معلّقته التي ارتاد فيها فضاءاتُ خيالٍ وجمال لم يسبقه إليها غيره.

هل غادر الشعراء من متردم * أم هل عرفت الدار بعد توهم

يا دار عبلة بالجواء تكلمي * وعِمى صباحاً دار عبلة وأسلمي

وابتدر الفيتوري القصيدة التي ربما تعد من شوارد شعره في مرابد بغداد من ذروة القلق والتردد والحيرة كأنه يخشى من أن يقدم لذلك الحضور المهيب من أهل البيان وأساطينه ما يُليق بمقامهم أو بمقامه كشاعر، فبدأ وكأنه يعتذر ولكن تلك البداية المشوبة بالتوجس والحذر كانت مفتاح سِرّ تألق الشاعر وحضوره الأسطوري في ذلك المساء ومضى يقول:

لم يتركوا لك ما تقول * والشعر صوتك حين يغدو الصمت مائدة

وتنسكب المجاعة في العقول

لم يعرفوك وأنت توغل عاريا في الكون

إلا من بنفسجة الذبول

لم يبصروا عينيك كيف تقلبان تراب أزمنة الخمول

لم يسكنوا شفتيك * ساعة تطبقان على ارتجافات الذهول

لم يشهدوك وأنت تولد مثل عشب الأرض من وجع الفصول

لم يتركوا لك ما تقول.

بعدها يتألق الفيتوري حدّ التوهج في كل فاصلة وحرف حتى يقول..

هذا المساء …

الآن في هذا المساء الأرض مركبة تشق الغيب

نحو مجاهل الغيب البعيد

الآن في أقصى جبال النجم يطبع وجهه في النجم إنسان جديد

الآن في مثل انفجار الرعد تهدر خارج الإيقاع مضطرب النشيد

وتكاد تجهل ما تريد.

* وعلى طريقة شجون الحديث فإن الشاعر اليمني عبد الله البردُّوني فارس مهرجان الموصل ذات يوم يفتتح إحدى وطنياته بالقول..

فظيعٌ جهل ما يجري * وأفظع منه أن تدري

غزاة لا أشاهدهم * وسيف الغزو في صدري

وعلى ذكر مهرجان الموصل والشاعر البردُّوني ومرابد بغداد والفيتوري يأبى التداعي إلا أن يزحم الزمان والمكان عبد الرازق عبد الواحد، الذي جسد محنة أمته في قصيده سيُكتب لها الخلود أبد الآبدين (صبر ايوب).

– الغريب في افتتاحية عبد الرزاق بأنه يشبه الجمل “البشيل فوق الدُبر ما بميل”

بأنه صبور كصبر العراقيين وليس العكس.

صبر العراق صبور انت يا جملُ؟؟

وصبر كل العراقيين يا جمل؟؟

وينداح الشاعر المجروح القلب والخاطر يقول في حق وطنه..

يا صبر أيوب لا ثوبٌ فنخلعهُ * إن ضاق عنا ولا دارٌ فننتقلُ

لكنه وطنٌ أدنى مكارمهِ * يااا صبر أيوب إنا فيه نكتملُ

وإنه غُرة الأوطان أجمعها * فأين عن غُرة الأوطان نرتحلُ

ليصل به التحسّر والتوجّع والنزف إلى قوله:

يا سيدي يا عراق الأرض يا وطني * وكلما قلتها تغرورق المقلُ

*ويروى أن عبد الرزاق كان ضيفاً على أحد مهرجانات الثقافة بالمغرب العربي وطُلب إليه قراءة (صبر أيوب) فبدأ يقرأ ويصول ويجول حتى وصل الى وصف أهل العراق بقوله:

قد يأكلون لفرط الجوع أنفسهم * لكنهم من قدور الغير ما أكلوا

فأغمي عليه لينقل فاقداً الوعي إلى فرنسا.

وإذا كان شعراء الفصحى بعد الافتتاحيات المُوحية والغنية بالدلالات الكلية يستمرون في النظم المطول وسرد التفاصيل لإشباع فضول المتلقي فإن شعراء رباعيات الدوبيت في السودان يبثون كل ما يردون قوله في رباعية واحدة تصوّر المشهد بكل زواياه ورمزياته وتترك التفاصيل لذوق وخيال المتلقى.

فعلى طريقة الناصر قريب الله ومدينة أم بادر يروي الشاعر الكبير عبد الله ود إدريس قصة تناوله فنجان قهوة في مدينة كسلا على يد صبية اريترية قادمة للتو من بلادها لا تجيد اللهجة السودانية اسمها “علم”. وبعد مغادرة المكان قال لأحد الذين يشاركونه المجادعات الشعرية (قطع أخدر)..

علماً فوق جبل كسلا المبرّز وبارز

خلى منامي بين نوعين مجوزِر وغارز

باللهج الملطف واللسان التارِز

بقيت أتوطا قدامي وراى ماني فارِز

*ومن التشبيهات الطريفة غير المسبوقة قول شاعر مليط عيسى مكين “أبو شوقي” يصف هجينه:

أمك شوش وشرادة وحليبها محرّم

زورك كفه وفِقَرك وترها مبرّم

حركة خُفّك الجيم الحديدو مخرّم

نوبة وطار، دراويشا فكيهم كرّم

ودمتم في حفظ الله.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى