النذير إبراهيم العاقب يكتب: النيل الأزرق.. فراغ وشغور سلطوي

الفراغ الدستوري يعني غياب النظم والتشريعات القانونية بسبب إسقاط الدستور في بلدٍ ما، أما فراغ السلطة أو شغورها فيعني غياب رئيس الدولة أو رئيس الوزراء أو رئيس البرلمان أو الوالي لسبب يتمثل في الوفاة أو العزل أو الاستقالة أو المرض أو الجنون أو الاختفاء كالخطف، ويعتبر الفراغ الدستوري من أخطر المراحل التي قد تمر بها الدول عقب أي مسار ثوري، ويختلف الكثير في تحديد ماهيته وآثاره على المستوى الوظيفي والبنيوي للدولة داخلياً وخارجياً، حيث أنه يُعبِّر عن حالة تفككٍ للأنساق والبنى المؤسساتية للدولة بسبب تعطل مرجعيتها الدستورية، وتختلف إسقاطات هذا المفهوم باختلاف طبيعة أنظمة الحكم في الدول بين النظم الرئاسية أو البرلمانية أو شبه الرئاسية، غير أن نتيجتها الحتمية هي تعطُّل كافة الآليات الدستورية لإدارة عملية نقل السلطة، بسبب غياب أي نص قانوني أو مخرج دستوري سليم لحل مسألة الشغور الرئاسي والتنفيذي المتمثل في رئيس الوزراء، أو الحاكم أيَّاً كان مُسماه، ولعلَّ الكثيرين يخلطون بين الفراغ الدستوري والفراغ أو الشغور السلطوي المتمثل باستقالة رئيس الوزراء أو الوالي، وهذا الشغور يُعبِّر عن حالة شغور هذا المنصب لأي سبب كان مثل الاستقالة أو الموت أو العجز، وفي هذه الحالة يتم تطبيق الإجراءات الدستورية لتبديل حاكم مؤقت لحين انتخاب آخر جديد، وطيلة هذا المسار الانتقالي يُعتبر الوضع دستورياً وكل المؤسسات تكتسب الصفة الشرعية في قراراتها، وهو إجراء معمول به في جُل دول العالم. أما الفراغ الدستوري فيكون عند تعطل الآليات الدستورية لعمل مؤسسات الدولة وعلى رأسها المؤسسات السيادية الرئاسة والحكومة والسلطة القضائية والبرلمان، بسبب غياب نص دستوري يحدد طريقة تسيير الدولة حال فراغ السلطة، ويقتضي ذلك عدم دستورية أي قرار مُتَّخَذ من أي جهة قانونية بحكم فقدانها للشرعية الدستورية، ومن أهم تبعات الفراغ الدستوري الغياب التام لأي أثر قانوني للقرارات الصادرة عن السلطة التنفيذية أو التشريعية أو القضائية، والتحلل الكلي للحكومة من أي التزام قانوني تجاه المواطنين، وبناءً على ما سبق فإن للفراغ الدستوري آثاراً محتملة ومؤكدة سلبية جداً على الحياة والمصالح العامة أبرزها، عدم شرعية القرارات المتخذة من طرف السلطة التنفيذية في جميع المجالات، وعدم إمكانية إصدار قانون الموازنة المالية للسنة القادمة من طرف الحكومة الحالية وما سيتولد عنه من تحديات ومشاكل، وتّعطُّل المصالح العامة للمواطنين من رواتب وتعيينات وديمومة عمل كل المؤسسات ودوائر الدولة، بجانب التبعات الاقتصادية فيما يتعلق بالتعاملات التجارية ومصير المؤسسات الأجنبية ومشاريعها داخل البلاد، والهاجس الأمني وإمكانية انفلات الأمور، إضافة إلى غياب الاعتراف بشرعية الحكومة الحالية وممثليها.

ولعل هذا الأمر يتمثل الآن بحذافيره في ولاية النيل الأزرق، التي ظلت تعاني بشدة من الشغور والفراغ السلطوي منذ السابع والعشرين من ديسمبر الماضي عقب وفاة الوالي السابق عبد الرحمن نور الدين إثر حادث حركة بشارع مدني الخرطوم، الأمر الذي استدعى تكليف الأمين العام بأمانة الحكومة جمال عبد الهادي للقيام مقام الوالي المُكلَّف إلى حين تعيين والٍ جديد، والذي بدوره أدى الأمانة بكل تجرُّد ونكران ذات، وظل يعمل في ظروفٍ بالغة التعقيد، ومع ذلك لم يألُ جهداً في محاصرة كل الأزمات التي طرأت في الولاية عقب وفاة الوالي السابق، بيد أن الواقع الماثل الآن في الولاية، وعقب الأزمات الطارئة والمتمثلة في التظاهرات الكثيفة والاحتجاجات من قبل المواطنين، فضلاً عن الأزمات الحادَّة التي تعانيها الولاية الآن جرَّاء ارتفاع الأسعار الشاسع، وأزمات المواصلات الحادّة، تتطلب من المركز ضرورة تسريع تعيين والٍ جديد للنيل الأزرق وبأعجل ما يكون، لتجنب الفراغين (السلطوي والدستوري) معاً بالولاية، ولشرعنة كل الأوامر والقرارات الصادرة من مكتب الوالي، لجهة الحفاظ على استقرار المؤسسات كافة وأمن الولاية ومواصلة مسيرة النضال في أوضاع آمنة ومستقرة على الصعيد الداخلي، لا سيَّما وأن الحراك الشعبي عندما خرج في مبدئه سعى إلى إصلاح النظام الحاكم وليس إسقاط مؤسسات الدولة وتعريضها للمساومات والأزمات، وهذا مسلك غاية في الخطورة وجب التنبيه له والتأكيد على ضرورة الوعي بمآلات أي توجه أو فكرة على مجتمع الولاية ومؤسساتها وأمنها، ولعل تسريع إعادة الولاية للحكم وفق الأطر الدستورية وتجنب الدخول في فراغ سلطوي ودستوري ومرحلة انتقالية مفتوحة على كل الاحتمالات والمخاطر هو الطريق الأحكم والأسلم للوصول إلى حلول عادلة لكل مشكلاتها التي ظلت تعانيها خلال المرحلة الماضية، والأولوية الوطنية تقتضي إجراء ترتيبات سياسية ودستورية ضمن إطار الدستور لا خارجه في هذا الخصوص، ريثما يتم الوصول لمرحلة انتخاب الهيئات التشريعية والتنفيذية والقضائية عقب انتهاء المرحلة الانتقالية الحالية بالسودان..

وإزاء كل هذه التحديات الوجودية البالغة التعقيد، أعتقد أنها وضعت المؤسسة العسكرية والمدنية الحاكمة في المركز، الآن في وضع صعب وامتحان عسير يفرض عليها الاستجابة لخيار الشعب والعمل بقوة أكثر لحماية المتظاهرين من جهة ومساعدة، القوى الأمنية الأخرى في عملية محاصرة الأزمات وكبت صانعيها بالولاية من كل المستويات ودون استثناء وتقديمهم للقضاء العادل، وأمام كل ما تقدم وأمام هذه المعضلات فالحل الأقرب للقبول هو أن يقوم المركز بتعيين والٍ مؤقت للنيل الأزرق، بالاتفاق مع قيادة الحركة الشعبية جناح الفريق مالك عقار، يتميز بالحكمة والقوة وينال رضا شعب الولاية كافة، وتسيير الأمور بالاتجاه الصحيح والمقبول شعبياً، وبهذا نُجنِّب الولاية المزيد من الكوارث والأزمات التي تزيد من معاناة المواطنين.

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى