د. الطيب عبد الجليل حسين محمود يكتب : مدير شرطة محلية شرق النيل ووالي الخرطوم

 

الوظيفة تسرق الأعمار بلا فائدة، وحقيقة أقبح شيء في هذا الوجود، هو أن تكون موظفاً مقبوضاً عليك من الثامنة والنصف إلى الرابعة والنصف من بعد الزوال، بينما تمر أشياء جميلة من حولك، وأنت خارج مقر عملك، لأنك لن تراها…. فحياتك كاملة ستمر في هذه الدوامة .. لن تستطيع التغيب، إلا بإذن، ولن تأخذ عطلة راحة، إلا برخصة، وإذا مرضت، لن يصدقك أحد، حتى تدلي بشهادة طبية، وأحياناً لن يصدقوا حتى مرضك البادي على وجهك، فيرسلونك إلى الفحص المضاد. لن تتمتع بنوم الصباح .. لن تتمتع بشبابك، ورجولتك ستتيه ضياعاً وسط حروب تفرضها طبيعة شغلك وعملك .. ستجري مهرولاً عجولاً عبر وسائل النقل، لتكون حاضراً في الوقت الذي حددوه لك، … ستعيش على أعصابك متوتراً تستهلك أقراصاً مقوية، وأخرى ضد التوترات العصبية… وعلاجات لمسكنات الألم العضوي والنفسي ……. ستظل تتمنى وتنتظر الزيادة في الأجور والعلاوات والحوافز، وترقيات الرتبة والتدرج في السلم الوظيفي ….. والتنقلات من منطقة لأخرى ………. وتتابع أخبار سجال الحوارات الاجتماعية والنقابات المهنية الحرة المحروم أنت منها ……. لن يسمح لك بالمغادرة، وترك الوظيفة، إلا بعد أن تقضي خمس وعشر سنوات في هذه الدوامة، ببلوغك سن المعاش الاختياري، أو عندما تبلغ حدّ السن للتقاعد في المعاش 65 سنة .. ووقتها، سيُحتفل بك …. وبنهايتك…. وعند قرب وحال ميقات موتك، زملاؤك في العمل … يقولون كلمة وداع في حقك … وسيبكي البعض، ليس عليك، بل على حالهم الذي يشبه حالك .. وسيمنحك رئيسك المباشر شهادة وهدية بلا قيمة، فهي عزاء أمام حياتك التي سُرقت منك .. ستعود إلى البيت صامتاً … وفي صباح أول يوم من تقاعدك، ستنتبه أن الأولاد رحلوا عن البيت، وأن شريكة حياتك هرمت، وغشى الشيب رأسها، وتتمعن فيها تتساءل، متى وكيف وقع كل هذا؟

حينها سينادي المنادي فيك … أن الوظيفة تسرق الأعمار بلا فائدة… سيعاتبك ضميرك آخر عتاب .. لماذا لم تغادرها وأنت في كامل طاقتك، لتستمتع بجمال زوجتك، وروائع بهجة أبنائك وبالحياة: …. ستجيب نفسك في آخر إعلان عن هزيمتك … لم تكن لدي الإمكانيات، ولم يكن لدي خيار ثان أو بدائل … وستستسلم آخر استسلام  … ستركن إلى النوم، وستصاب باليأس والاكتئاب، وتبدأ رحلة علاجاتك من الأمراض، وسترحل دون أن يعلم أحد بموتك. فمن عاش حاني الرأس، يموت دون مقاومة …. بينما سيتقدم العديد من الشباب بعد رحيلك إلى مباراة واختبارات تخص نفس وظيفتك، وسيحلمون كما كان حلمك، وأنت في أوج شبابك… فتتكرر المأساة  بينما … حياتك وحياتهم الجميلة، لن تتكرر ثانية.

أنها مشاركة من موظف عام متقاعد …… قرأتها، وأعجبتني، وأستعيرها هنا….. لأنه كلام سيغير كثيراً من تفكير إخوة لنا في الحياة .. فهي كذلك كلمات أهديها لمن أحبهم بسبب وبلا سبب، عن معشوقتي، وهي لي، سميتها الشرطة.

تلك الكلمات، أعادت لي كلمات تذكرتها عن المرحوم العميد شرطة/ محمد عبد الجبار(له الرحمة والمغفرة)، فقد هاجت وماجت ذاكرتي،  وشخصي يكتب في مذكرة لتنفيذ حكم قضائي نوعي سجلته سابقة قضائية في القانون والقضاء الإداري، كأول حكم قضائي نوعي، وقد تزاحمت الكلمات، وأنا أطلع على فيديو وبيان للشرطة عن مدير شرطة محلية شرق النيل، واستلقيت على السرير أقرأ…… وتعجبت لتراهات تصرفات والي الخرطوم الذرائعية الصبيانية، وللذين لا يعرفون المرحوم العميد شرطة/ محمد عبد الجبار، فقد تقاعد في المعاش في أوائل أيام الحكم البائد، ويقول عن إنهاء خدمته، إنه بلغه قرار إنهاء خدمته من معشوقتنا الشرطة بصك طلاق بائن دون رجعة، وهو وقتها أحد ضباط كلية الشرطة، وغادر منزله سريعاً الساعة 12 ظهراً، وخلع لآخر مرة بدلته العسكرية البوشيرت، واضطجع على السرير في غرفة النوم، وقميص البوشيرت بالأبزين الحديد، معلق على زاوية شباك الغرفة، ويتراقص ابزين البوشيرت مع تيار الهواء وهو يطرق حديد الشباك بنغمات صوتية لحنية كالجرس لتمام طابور تلاميذ المدارس، والمرحوم العميد شرطة/ محمد عبد الجبار، يحلق في قميص البوشيرت الذي يحادثه أيام خدمته، مختصراً له وللأبد مسيرة حياته المليئة ببهجة الأتراح، وعميق الأحزان، لاهياً النفس دوماً مع دخان سيجار الكنت الأمريكي، أو سيجار البينسون الإنجليزي، أو السيجار الكوبي، وهو في عنفوان هيبة ضابط الشرطة، لا يخشى شيئاً، ولا يهاب أحداً أمامه، إلا مساءلته من قادته في الشرطة دون سواهم بالتقصير في أداء الواجب، أو التفريض في خدمة حكومة السودان ضابطاً في الشرطة السودانية، ولأول مرة ينام العميد شرطة/ محمد عبد الجبار تلك السويعات بعد الساعة 12 ظهراً، فهو ساري الليل عاشقه، وحاضر تمام فجر النهار في مكتبه، ورحم الله العميد شرطة/ محمد عبد الجبار، فهو أحد ضباط الشرطة العمالقة وأسطورة زمانه، يهابه ويخشاه التنفيذيون من هو في حكم الوالي أو المحافظ أو حتى الوزير، ويجد الاحترام والتقدير من أقرانه العسكريين  في الجيش والسجون والقوات النظامية الأخرى، وحتى القضاة ووكلاء النيابات، ليس لجبروته السلطوي وشجاعته وإقدامه، إنما لجبروت مهنيته وتفوق وجدارة وكفاءة قدراته.

 

المحامي استشاري القانون المحكم والموثق

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى