أطروحة الواثق كمير والتحرر من أسرِّ المصطلحات!

 

 

عادل إبراهيم حمد يكتب :

[email protected]

 

كثر النقاش وتشعب حول علمانية الدولة أو مدنيتها والدولة الدينية حتى صار للمصطلحات أنصار يستميتون في الدفاع عنها ويتعصبون لها، وكاد الجدال يدخل في حلقة مفرغة. ثم صار المصطلح عقبة  حين تحول من نقاش نظري إلى موقف سياسي كما فعلت الحركة الشعبية شمال/ الحلو التي جعلت من العلمانية مطلباً تفاوضياً، هو أقرب إلى الشرط للتوصل لاتفاق سلام مع حكومة الثورة. لذا اكتسب مقال  د. الواثق كمير “العلمانية في السياق السياسي السوداني” أهمية خاصة، لخروج الكاتب ببراعة من جدال الحلقة المفرغة حين أدرك أن“هذه المفاهيم والتداول حولها غير مألوف أو مهضوم لسواد السودانيين مما يملي علينا استخدام لغة يفهمها المواطن العادي”،ثم قدم تصوره البديل المتمثل في دولة المواطنة القائمة على الحقوق والواجبات المتساوية.

هذا النهج المتحرر من أسر المصطلحات يقود ويحث على النفاذ إلى المعاني التي يقصدها الداعون للمصطلح، وبذلك يُقدم فكرة لا يحيطها غموض، ويشرك المواطن العادي المهتم في نقاش شأن يعنيه.

إن المواطنة بمعنى المساواة في الحقوق والواجبات تعني رفض أي  تشريع يفتح باب التمييز بين المواطنين في وطن واحد، وهذه قاعدة يتفق عليها كل الفرقاء. وليس ثمة تبرير مقبول لجعل التمييز مقبولا إذا صدر عن مصدر بعينه، بدعوى أنه تشريع سماوي مقدس حسب فهم جماعة محددة. فالتمييز يجب أن يكون مرفوضاً أياً كان مصدره، يستوي في ذلك التمييز العنصري الذي كان في جنوب أفريقيا وفق تشريع وضعي، والتمييز بين المواطن المسلم وغير المسلم وفق تشريع ديني بفهم جماعات الإسلام السياسي.

وبهذا الفهم, يرى الكاتب أن نصاب السلام العادل لن يكتمل وأن دولة المواطنة القائمة على الحقوق والواجبات المتساوية، وأن المساواة أمام القانون لن تتحقق إلا بإلغاء قوانين سبتمبر 1983 المدمجة في قوانين 1991، وعليه يطرح الكاتب سؤالين محوريين: الأول إلى  من أسماهم قوى التغيير “لماذا لا نلغي قوانين سبتمبر؟”، والثاني موجه إلى الإسلاميين: “لماذا نبقي على قوانين سبتمبر؟”.

 

السؤال الأول أقرب إلى استفهام استنكاري، لأن قوى سياسية عارضت القوانين عند صدورها، بينما تلكأت في إلغائها عندما آلت إليها السلطة. وبعد أن يستعرض الكاتب اتفاقات بين الحركة الشعبية وجل قوى انتفاضة أبريل يبدي دهشته من “أن تنجح الأحزاب والقوى النقابية والمجتمعية التي تمثل الحاضنة السياسية لحكومة الانتفاضة في التجاوب مع الحركة الشعبية في قضية القوانين بينما تعجز الحكومة التي تمثلهم عن مثل هذا التجاوب”.يفسر هذا التناقض، في رأيي، أن بعض القوى السياسية المؤثرة قد اختلفت سياسياً مع الجبهة الإسلامية القومية في تأييد قوانين سبتمبر, لكنها لا تختلف فكرياً مع الجبهة في خط الإسلام السياسي، فهي ذات القوى التي مكنت لشعار الدستور الإسلامي قبل انقلاب مايو حين كان تنظيم الإسلاميين تنظيما مجهرياً. هذا يفسر تباطؤ السيد الصادق المهدي في إلغاء قوانين سبتمبر رغم مقولته الشهيرة “إن قوانين سبتمبر لا تساوي الحبر الذي كتبت به”، بل إنه ما زال يحمل مفهوماً قريباً من الإبقاء على قوانين دينية. فقد انتقد الوثيقة الدستورية بسبب خلوها من الإشارة للإسلام حيث كتب:كان ينبغي أن يتم النص على أن الإسلام هو دين أغلبية السودانيين، وأن لدعاته الحق في التطلع لتطبيق تعاليمه، بشرط الالتزام بحقوق المواطنة المتساوية وحرية العقيدة لكل الأديان، والالتزام بالنهج الديمقراطي”. هذا بمثابة إقرار صريح من رئيس حزب الأمة القومي بأن إيراد الإسلام في أية وثيقة دستورية قد يهدر حقوق المواطنة المتساوية، ويمنع حرية الاعتقاد، ولا يلتزم بالنهج الديمقراطي، ذلك ما لم تلحق بالنص اشتراطات وتطمينات وضمانات.

هذا الإصرار على التمسك بفكرة الدولة الدينية، رغم المخاوف المذكورة ، يعني أن السيد الصادق المهدي لم يعتبِّر بفشل محاولات (تحسين) قوانين سبتمبر خلال الديمقراطية الثالثة، الذي أفضى في أحسن الأحوال إلى مقترح بوطن (مرقع) يحكمه قانون لشمال السودان، وقانون آخر لجنوب السودان، وثالث للعاصمة القومية . ومازال الإمام الصادق يرى إمكانية تقديم نسخة محسنة للدولة الدينية، وهو فهم يتقاصر عن إدراك فشل فكرة الدولة الدينية في جوهرها لأنها تحمل في جوفها احتمالات الوصاية والتشدد والتطرف.

في المقابل، يعتبر موقف الإسلاميين، الذين وجه لهم السؤال الثاني، أفضل، لأنه متسق مع رؤيتهم الفكرية. ولذا يمكن نقاشهم من منطلق فكري واضح.

 

إن تمُّسك الإسلاميين بالإبقاء على قوانين سبتمبر نابع من معتقد بوجوب الدولة الإسلامية على المسلم، ولا يختلف فهم كثير من قادة الإسلاميين مع ما تحمله قواعدهم حول فكرة الوجود برغم عدم وجود شكل محدد للدولة، وبالرغم من أن شعار الدولة الإسلامية مشترك بين (لافتات) إسلامية جد متباينة تشمل داعش، وحزب العدالة والتنمية في تركيا، وطالبان في أفغانستان، وحزب النهضة في تونس، وبوكو حرام، والسعودية وإيران.

ويختلط مع الفهم الخاطئ لفكرة الوجوب فهم آخر لفكرة (كمال الدين)، حيث يظن هؤلاء وأولئك أن الدين ـبكماله لا بد أن يكون له تصور تفصيلي للدولة، وإلا يكون ناقصاً، وهذا ما لا يجوز أن يظنه المسلم في دينه الذي ما فرط كتابه في شيء. وعليه فللدين الكامل تصور للنقل والاتصال والزراعة والاقتصاد والمعمار والرياضة، و(كل) شيء. لذلك، فإن الإبقاء على قوانين سبتمبر نابع من الإيمان بفكرتي الوجوب والكمال. ومثلما أوضحنا ابهام فكرة الدولة التي تشترك فيها النهضة وبوكو حرام، يسهل تفنيد الفهم الخاطئ لفكرة الكمال وذلك بتقديم فهم آخر ملخصه أن كمال الدين لا يعني الاجتهاد لتأكيد ملكية الدين لتصورات تخصه، ولو في خطط اللعب في كرة القدم. بل إن كمال الدين يعني إحاطة المولى بكل شيء، مما يعني أنه يوحي بكل فكرة ولو كانت في الصناعة أو الزراعة أو الري أو النقل أو المعمار مثلما أوحى للنحلة في أمر السكن“وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون”.

وليس بعيداً عن فهم العوام فهم خاطئ يحمله المتعلمون الإسلاميون، رسخه فيهم منهج مدرسي غير صحيح جعل النبوة المقدسة والخلافة غير المقدسة في مرتبة واحدة، وكأن المسلمين قد انتقلوا من عهد النبوة إلى عهد الخلافة بدون أن يهبطوا درجة واحدة. ويُصححُّ هذا الفهم بالتمييز بين تعاليم النبي المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، وتجربة أصحابه في الحكم التي لا تلزم المسلمين بعدهم، رغم ما يحملونه من توقير للأصحاب.

إن أهم ما يَلزم أطروحة د. الواثق كمير حتى تبلغ مبتغاها هو الانتباه إلى أن قوى الثورة ليست على مواقف منسجمة  من القوانين الإسلامية، لذا دعونا ـنحن في حزب الأشقاء لتكوين تحالف قوى الدولة المدنية ليشمل القوى الداعية بوضوح لدولة المواطنة الكافلة للحريات وسيادة حكم القانون واستقلال القضاء والفصل بين السلطات واحترام حقوق الإنسان. وها نحن نضم صوتنا  لدعوة د. الواثق كمير لدولة المواطنة حتى لا نقع فيما نعيبه على غيرنا من المتعصبين لمُصلح و إن ظهر آخر يعبر عن المعاني بأفضل منه. آملين أن تُفرز المواقف بفاصل واضح بين الداعين لدولة المواطنة والمتلجلجين.

بقي لنا أن نشير إلى المؤتمر الدستوري، لا لأهميته، بل للتنبيه إلى ما يمثله من خطر. فهذا المؤتمر قنبلة موقوتة قد تنفجر فور فشله، خاصة وأنه مرشح للفشل إذا انعقد .

لقد كثر الحديث عن هذا المؤتمر وامتد لثلاث عقود ونصف حتى توهم كثيرون أن معضلات السودان الدستورية سوف تذوب فور انعقاد المؤتمر. ولا بد من الانتباه إلى أن هذا المؤتمر (الجامع) قد يقبل أطروحات داعية لإعادة دولة الإسلام السياسي بوجه جديد. لذا لابد أن تتجاوز حكومة الثورة فكرة المؤتمر الدستوري وتُفعّل حقيقة تمثيلها لثوارٍهم من اقتلعوا دولة الإسلام السياسي، لا غيرهم. وإذا لم تُقدم حكومة الثورة بحسم وحزم على هذه الخطوة، فلكم أن تتخيلوا الخيبة ثم الغضبة التي تعتري أصحاب الآمال في دولة العدالة حين يستمعون إلى أوراق (التوفيقيات) المقدمة من أشباه الإسلاميين في المؤتمر الدستوري، لينفجر المؤتمر من داخله وتندلع النيران بسبب مؤتمر كان يرجى منه إطفاء الحرائق.

 

وبدلاً من هذا (الوهم)  المسمى المؤتمر الدستوري، فلتعمل حكومة الثورة على تحقيق آمال الثوار بإلغاء كل القوانين المقيدة للحريات وإصدار القوانين المعززة للحريات والكرامة، يعينها على ذلك وجود وزير العدل الذي يجمع بين التأهيل العلمي والشجاعة الشخصية والشجاعة السياسية. فلتنهض حكومة الثورة لمسئوليتها يدعمها السند الشعبي، فتقيم دولة المواطنة، وهل من عاقل يدعو لغير ذلك في عصر تجاوزت فيه الإنسانية سبة التمييز السلبي؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى