الميزانية الجديدة

 

 

د. الصاوي يـوسف  يكتب :

 

بإجازة الميزانية الجديدة، وضعتنا الحكومة أمام حقائق الواقع. فالحياة ستكون قاسية جداً، ومستويات الأسعار تقترب من المستوى العالمي، أو على الأقل مستوى الإقليم المحيط بنا. سيكون علينا شعباً وحكومةً أن نستيقظ للحقيقة المُرّة: أن نمد أرجلنا على قدر لحافنا، وأن نعيش على قدر دخلنا الحقيقي. سوف يضطر الشباب إلى تشمير ساعد الجد والعمل، والبحث عن فرص لزيادة الدخل. لن ينفع بعد اليوم تعليق العطالة والفقر والفشل على النظام، ولن يجدي الخروج في تظاهرات تحرق المحطات وتكسر الشوارع والمؤسسات. فعندنا حكومة ثورة جاء بها الشارع، ولا يُوجد صرف على حزب ولا على الحرب والأمن، ولا يُوجد فسادٌ مؤسسي وتمكين يمنح كل المال والفرص لذوي الحُظوة.

علينا مُواجهة الواقع المُر. من لا يعمل لا يكسب ولا يأكل، ومن ينام عليه أن يدفع الثمن. انتهى عهد التكاسل والتواكل، ومضى إلى الأبد، بحمد الله، عهد توزيع الخُبز المَجّاني والكهرباء المجانية والوقود المجاني. ولم يبق إلا العقل نستخدمه في ابتكار وسائل العيش وطرق تعظيم الدخل، وإلا الجسم نبذل طاقته في العمل المنتج، ونحصد ما زرعناه فعلاً، وليس ما تجود به الدولة، أو السماء، أو المانحون.

السودان بلدٌ أحاديٌّ، أحادي التفكير وأحادي التركيب وأحادي التوجه. وعلى عكس ما يقال عن التنوُّع في السودان، فليس هناك تنوُّع إلا في الظاهر. فالسوداني أحادي التفكير بمعنى أننا جميعاً نحمل نفس الفكرة التقليدية الخاطئة، لم ننفتح على الأفكار الجديدة، ولم نتعوّد على اجتراح المُختلف والمتجدد، ولم نتدرّب على التفكير النقدي الخلاق، تفكير حل المُشكلات، وجمع البيانات وتحليلها. والسودان رغم تنوُّعه القبلي والإثني، هو في حقيقته أحادي التركيب. لقد جلست مرةً في إحدى محطات القطار ببعض مدن أوروبا انتظر قطاراً يقلني إلى منزلي، وخلال نصف ساعة من الانتظار، أمضيتها أتسلى بإحصاء أنماط وأجناس البشر التي تمر أمامي مسرعة إلى قطاراتها، أحصيت 28 جنسية مختلفة من كل قارات العالم. أما في السودان، فنحن نستغرب لوجود شخص أجنبي وكأنه كائن قادم من الفضاء، وربما التفّ حوله الصبية والأطفال يلمسونه وينظرون إليه بدهشةٍ واستغرابٍ. ولذا لا تزدهر عندنا السياحة، ولا صناعة المطاعم الأجنبية، ولذا لا نُرحِّب بالأجنبي، بل نتشكّك فيه، وننفر منه ونحتقره، رغم أنّ السودان تاريخياً تكوّن أصلاً من هجرات مُتتالية من مختلف بقاع الأرض. أما نحن فكل بلادنا ومُدننا جنسية واحدة. ولذا تكثر عندنا الصراعات الدموية القاتلة، بين قبائل هي في الحقيقة من أصل واحد إثنياً، ولا اختلاف بينها إلا في تاريخ استقرارها في المكان.

وتوجُّهنا أحاديٌّ وتقليديٌّ في كل شئٍ. فنحن لا نعرف من الغذاء إلا الرغيف، رغم أنه دخيل على المائدة السودانية، ولا نعرف من المهن إلا وظائف الحكومة رغم أنها الأقل عدداً في سوقنا واقتصادنا، ولا نعرف من وسائل الاحتجاج إلا حرق اللساتك وإغلاق الطُرق بالمتاريس وتعطيل حياة الناس، الذين نتظاهر باسمهم! ولا نعرف من المبادرات إلا المبُادرة بالشر.

أتمنى أن ينسى الناس كل هذه الأحادية، وينطلقوا إلى آفاقٍ جديدةٍ، في التفكير والعمل والكسب، وأن نرى شباباً يُطوِّرون مشاريعهم الخَاصّة ومُبادراتهم الاقتصادية والاجتماعية، وينفتحوا على العالم، بشراً واقتصاداً وأفكاراً، ويتوجّهوا إلى حل المُشكلات حلاً عملياً مُبتكراً، بدلاً من البحث عن شمّاعةٍ يُعلِّقون عليها الفشل، ويلومونها على تقصيرها في حقِّهم. فلنبدأ بإصلاح أنفسنا، بالتّدريب والتأهيل، وبالخُرُوج من قوقعة الحكومة ولوم الحكومة وانتظار الحكومة، ولنطلق الثورة الحقيقية التي ستغير البلاد.

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى