ضيّعنا للوطن زمناً..!

مُنذ أن انتصرت الثورة في أيامها الأولى، كان رأيي واضحاً في تشكيل الحكومة، خاصةً وأنّ قيادات الحرية مجتمعة في أديس أبابا، تناقش قادة الحركات المسلحة.. فقد استضافتني قناة أم درمان الفضائية، وقلت فيها: هناك خياران لتشكيل الحكومة، إما يظل الوضع الراهن الذي يقوده وكلاء الوزارات لحين توقيع اتفاق سلام شامل مع الحركات المسلحة، ومن ثَمّ تشكيل حكومة الجميع سواء محاصصة أو حكومة كفاءات.. الخيار الثاني تشكيل حكومة مدنية برعاية المجلس العسكري ذات مهامٍ خاصةٍ ينتهي أجلها عند توقيع اتفاق سلام مع الحركات.. لماذ؟ لأني أعرف نفسية الحركات المسلحة تماماً عندما يُتّخذ قرار مركزي مهم في غيابها، خاصة بعد نجاح أي ثورة سواء عقب أكتوبر ١٩٦٤ أو أبريل ١٩٨٥م، ولم يشذ جون قرنق إلا بعد أن علم أنّ المجلس العسكري برئاسة سوار الذهب ومن معه من الأحزاب قد شكّلوا حكومتهما المدنية.. فإن تسيير الحكومة بالوكلاء أو الحكومة المؤقتة يُعتبر للحركات (طعماً) على المكشوف، فتحس أنّ لها اعتباراً في نفوس الثوار، وهو الأمر الذي كان مفقوداً في حكومة الإنقاذ.. وللأسف تداعينا واشرأبت أعناقنا لتشكيل حكومة مُزاوجة بين الحزبية والإخوانية فقدت بريقها من أول اسابيعها.. الكمبيوتر الشعبي لا تغيب ذاكرته، فهو يعرف الحزبي وغير الحزبي. فقال: هذه الحكومة ما عرفناها (ضكر واللا إنتاية؟) هذا الكلام قاله مواطن عادي، وبالفعل ففيها الحزبي المعروف، وفيها الكفؤ المعروف.
السؤال المطروح وأتحدى أياً من الذين شكّلوا هذه الحكومة هل هي حكومة مُحاصصة حزبية أم حكومة كفاءات؟ وبدوري سأجيب على هذا السؤال وأقول إنّ هذه الحكومة حكومة مزاوجة بين الهيكلين الحزبي والكفاءة.. وهذا مما قلل الدفاع عنها وحمايته وتحمُّل المسؤولية، رغم دعمنا لها وقلنا في مقال سابق إنّ لها إشراقات مُضيئة، ولأنها كانت مُزاوجة (شيلني بشيلك وعودي وعودك)، جاء المختارون من وزرائها وولاة ضعاف في معظمهم، ولا أستطيع التعميم، لأنّ فيهم كفاءات ممتازة.. أما الغالبية فهي ضعيفة الخبرات، بطيئة في اتّخاذ القرارات، خاصة ولاة الولايات والذين بسبب شروط الحركات، ترك الأمر لقيادات الجيش في الولايات ليسدوا الفراغ كولاة..!!
أولاً: هذه كارثة، فالولاة العسكريون غير مهيأين لهذه المهمة الشاقة، لأنهم يقومون بأداء المهمة تكليفاً، لذلك لم يُؤدوا القسم، والذي لم يُؤدِ القسم كوالٍ سيكون أداؤه أقل بكثير من الوالي الرسمي.. وهم عسكريون في معسكراتهم لم يندمجوا مع المدنيين في الحكم والإدارة.. وجدت بعض الولاة أبعدوا عنهم عنصر الإدارة الأهلية تماماً.. تخيّل، شخص يبعد الإدارة الأهلية في مناطق السودان الطرفية فكيف يتفادى الجريمة؟ لذلك نرى كثيراً من التردد في اتّخاذ القرارات المصيرية، مثلاً تم الاعتداء على ممتلكات (يوناميد) نهاراً جهاراً في نيالا، ماذا كان رد الوالي؟ تم قتل أحد المُواطنين في الجنينة علناً، لم يستطع الوالي السابق للولاية القبض على المتهم حتى سبّب لنا جرحاً غائراً بالاعتداء على أحد المُعسكرات انتقاماً.. وحصل نزوح بالكامل للنازحين داخل مؤسسات الحكومة منذ أول العام وحتى يومنا هذا، ممّا عطّل عمل الحكومة والمدارس نهائياً، وهكذا في كسلا والقضارف وبورتسودان، وبعض التصرفات غير اللائقة من بعض الولاة في شمال البلاد.. أما والي الخرطوم فيكفي آن يمر بسيارته لأيٍّ من الوحدات الإدارية في المحليات ليتفرّج في التشكيلات الزهرية الأوساخ، وليعرف كيف تحدته في منتصف شوارعها، على الأقل الذي كسره الثوار من بلاط كان يمكن أن يرجعوه إلى مكانه الطبيعي وكانوا سيفعلون إذا التدبير والتقدير وحُسن التفكير.. أما الوزراء المركزيون فحدِّث ولا حرج.. فالخلاصة، ضعفٌ شديدٌ في الأداء والعجز في محاربة داء “كورونا”. وأخيراً.. قرأنا تبادل الاتهامات بين وزير الصحة وبعض أعضاء المجلس السيادي من جهة، ووزير المالية من جهة أخرى، ثم هذا الغلاء الفاحش الذي عشعش (وتحكّر) وضرب بأطنابه نياط المُواطنين المضروبة أصلاً بسياط الجوع والمرض والتخلف والجهل والحروب لسنين عددا.. والأفحش أنه لا حلول له في القريب العاجل.. فهذه محنة “كورونا” والتي انقلبت منحة للحكومة امتدت لأكثر من شهرين، حصرت الناس في بيوتهم.. والمتوقع أن الحكومة تجتهد لإيجاد حلول لصفوف الوقود والخبز وخفض قيمة الدولار المُوازي.. ولكن للأسف ما زالت الحالة تراوح مكانها!! هناك أشياء لا تحتاج للدعم الدولي ولا تحتاج لخفض الدولار، أعطي مثالاً لهذه بالقاذورات والأوساخ.. هل تحتاج إلى دعم دولي؟ هذه المصيبة تحتاج فقط لقرارات غير مُعيبة، لبعض من التفكير وقليل من التدبير.. لكن مَن هو الوالي أو المسؤول الذي يتّخذ هذا القرار؟ معروفٌ أنّ أكثر من ثُلثي الخدمة هم من الحرس القديم وكذلك الولاة.. والمثل يقول (امنقور ما بسل عين أخوه) فلو كان تم تعيين الولاة لما حصل كل هذا التنطع والتملص من المسؤولية.. وهذا محل خلاف بيننا والحركات المسلحة.. قلنا لا تقفوا ضد تعيين الولاة فإنه سيؤثر على الأداء، وقلنا يجب التركيز للموافقة على تعيين حكومة مهام تنتهي بإعلان اتفاق سلام، لكنهم وقفوا (دت) في عدم تعيين الولاة، وطبيعي أن نعيش هذا الداء.. يجب أن نعترف أننا ضيّعنا للوطن زمناً كان يمكن أن نستفيد منه.. ولكننا كيف لا نُضيِّعه والإنسان أرخص شئ عندنا.. وعند الأمم المتحضرة فهما أغلى شيئين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى