مطلوبات السلام المُستدام

مرّ السودان بظروف صراعات وحروب لم تكن هي الأولى في العالم. فقد سبقته أرقى الدول في ذلك. لم تكن هناك دولة في أوروبا لم تخضع لحروب فيما بين سكانها أو مع جيرانها من الدول. بل هناك قبائل في أوروبا بعينها خاضت صراعات وسيطرت على ممرات مهمة بدافع القبلية والهيمنة. وكذلك عاشت أوروبا مشاكل دينية حتى في إطار الديانة المسيحية الواحدة. وأمريكا لم تنج من الحروب الإقصائية والأهلية حتى وحّدها الجنرال جورج واشنطن وأصبحت فيما بعد تخطو خطواتها الأولى نحو النهوض والتطور بعد أن وضعت الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب أوزارها والاتفاق على دستور قليل الكلمات عميق المضمون حفظ جميع الحقوق.  وبين ومضة وغمضة في أقل من قرنين من عمر الزمان تربعت أمريكا على عرش العالم. أما الحروب والصراعات في محيطنا الإفريقي والعربي في القرون القريبة السالفة فحدّث ولا حرج.

إذن نحن في السودان لسنا نشازاً ولا شواذاً. فقط والمهم جداً كيف ننهض من كبوتنا ونصحو من غفوتنا لنأخذ مقعدنا بامتياز وسط كراسي الأمم المتحدة وبحضور زاهٍ وبذهن رائق ومُتّقِد. صحيح كانت هناك جهود سابقة للملمة الأطراف وتضميد الجراح وإسكات صوت السلاح ولكنها جميعاً راحت أدراج الرياح. ونحن نتفاوض الآن في جوبا لابد لنا من استلهام العظات والعِبر من السوابق التاريخية، ثانياً، ونحن ننشد السلام المستدام وتلك هي الرجاءات والأمنيات، لابد من أن نحصل على سلام متقدم يستفيد من التجارب حولنا في المغرب وجنوب أفريقيا ورواندا. صحيح كل بلد له خصوصيته، وكذلك السودان. ولكن من الضروري الانتباه بشدة إلى المحاور التي تسعدنا وتشدنا إلى بعضنا البعض والمحاور التي أعني هي التي تغسل الدموع وتنظف القلوب وتذيب الغل بواقع المرارات التي عاشها المظلومون من جراء حروبنا وصراعاتنا السابقة. ولا أقل من أن  نغوص ونتعمق في بحور الدموع والدماء وعظام الشهداء لنأتي بجديد في إطار الإنصاف وإبراز الحقيقة ونشر العدالة، ثم تأتي مرحلة التعويض. وطبيعياً ستأتي مرحلة العدالة الانتقالية التي ستنقلنا جميعاً من مرحلة الاضطراب إلى مرحلة الاستقرار. ثالثًا ونحن نتفاوض في جوبا لابد من النظر بعمق إلى شمولية السلام لأنه يخص جميع السودانيين طليقهم وسجينهم. صغيرهم وكبيرهم. أميرهم ووضيعهم. وبالضرورة يتشاور في ذلك الحكام والمحكومون. وأعني الحكومة والمعارضة. ولا عزل في هذا لأي حزب بما في ذلك جميع الأحزاب التي شاركت في الإنقاذ حتى المؤتمر الوطني ليكون الجميع مشاركاً في صنع الكلمات التي تزين مشروع السلام حتى لا يأتي حزب ليقول إني كنت مبعداً ولم أشارك في حيثياته ومضامينه. رابعاً ضروري وضع الحالة الجغرافية للبلاد أمام المتفاوضين وتشريح حالات الاختناق السابقة التي أدت إلى الضجر والقهر ورفع الصوت ورفع صوت البندقية وبعد الفحص والإمعان سنصل إلى اقتراح يكون في صلب الاتفاق وهو عقد مؤتمر سوداني شامل ليناقش القضايا الوطنية كلها بما في ذلك نوعية الحكم حتى ولو مضى الأمر إلى حق تقرير المصير. وعلى الناس أن لا تنزعج من هاتين الكلمتين والمفردة التي غالباً ما تفسر بالتمهيد للانفصال تيمناً بتجربة الجنوب. الجنوب نفسه لو وجد  في أي مؤتمر عقداً اجتماعياً عادلاُ لما لجأ للانفصال أصلاً. المؤتمر السوداني الشامل سيطمئن الحركات المسلحة أن هناك قضايا كبيرة ستناقش في مؤتمر أكبر. بمعنى ليس من العدل أن تناقش القضايا الوطنية في مؤتمر لمعالجة قضايا مطلبية جهوية، وإنما بعض القضايا الجهوية تحول إلى هذا المؤتمر ليقول الآخرون رأيهم بكل وضوح مثلاً في علاقة الدين والدولة وحقوق الهامش في المركز والعدل بين الجميع، وكيف يحكم السودان ديمقراطياً وإذا كان ديمقراطيًا أي ديمقراطية؟. ربما يأتي أحد بفكرة نظام ملكي. وحتى الدكتاتورية لها زبانيتها. كان الرومان يتحاكمون بالديمقراطية ولكنهم عندما يفسدونها ينادون بدكتاتور يعطل القوانين يخوض الحروب ليرجع الحدود المسلوبة إلى حضن الوطن يؤدب المتفلتين ثم يسلم الحكم طواعية للديمقراطيين ليبدأ إفساد الديمقراطية من جديد.

أرجو وبكل جوارحي أنشد، وأدعو بالنجاح لمفاوضات جوبا حتى يتحقق السلام المستدام بعقد مؤتمر السودان العام.

د. محمد عيسى عليو

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى