رئيس الوزراء د.عبدالله حمدوك : قررت الاستجابة للتكليف وفي خاطري ترسم تضحيات الشهداء والجرحى والمفقودين

 

نقلاً عن مجلة الأمانة مجلس ا لوزراء

 

–  تحديات المرحلة أكبر من مرحلة إسقاط النظام

–  تجربة العمل في أفريقيا أكسبتني علاقات مباشرة وحميمة مع زعماء أفريقيا وقادة التحرر الوطني

–  معظم الخيارات في حياتي كانت نتيجة وعي سياسي مبكر

–  ليس هناك مقارنة بين الوقوف إلى جانب السودان وأهله وبين وظيفة قيادية في الأمم المتحدة

–  أكثر ما أعجبني من شعارات الثورة : يا عنصري ومغرور كل البلد دارفور

موسيقى الريف هي الموسيقى التي تتأثر بالعادات والتقاليد والثقافات التي حولها، كما أنَّ القصص والكلمات التي تحملها الأغنيات تشكل مجمل ضروب الحياة في المنطقة التي انطلقت منها هذه الموسيقى. كان هذا الموضوع هو مدخل حوارنا مع رئيس وزراء السودان الدكتور عبدالله حمدوك، فحمدوك الذي حمل حقائبه عائداً ليستقر في السودان في نهاية العام 2019، هو ابن هذه السرحة، حمل همومها وشقي بها في غربةٍ استطالت، غربة بدأت بالسفر بحثاً عن تحقيق الذات وللحصول على درجات علمية عليا في نهاية ثمانينيات القرن المنصرم، وانتصفت هذه الرحلة بسماعه لخبر تعرُّضه للفصل التعسفي «صالح عام» من الخدمة المدنية بعد انقلاب الثلاثين من يونيو 1989، ضمن آلاف من السودانيين، وانتهت بالتنقل بين وظائف مرموقة في أرفع المؤسسات الدولية بعد حصوله على الشهادات التي كان بحثه عنها أحد أسباب التحوُّل الكبير في حياته، من تلميذٍ في مدرسة ريفية في أقاصي كردفان، إلى رئيسٍ وزراء مُجمع عليه ومرضيٍّ عن تقلُّده لهذا المنصب من غالب مكونات السودان، ضمن الفترة الانتقالية المؤسِّسة للديمقراطية المستدامة، وهي مرحلة ولدت من رحم ثورة عظيمة صنعها الشعب السوداني ودفع ثمناً لها دماءً ودموعاً غزيرة.

يختصر دكتور حمدوك نشأته في قصة قصيرة، إذ يقول إنه وخلال سنوات الدراسات العليا بالمملكة المتحدة( مانشستر)، تصادف أن حضر المرحوم الموسيقار السوداني الكبير والفذ محمد عبدالله محمدية، بمعية الأستاذ الفنان عبدالقادر سالم والأستاذ الفنان عبدالرحمن الكرو؛ التقى دكتور حمدوك بمحمدية وسأله باعتباره موسيقاراً صميماً، عن موسيقى الريف  (country music)، وكيف أنه يتأثر بها وبنغماتها متى ما استمع إليها ومن أي جهة كانت، اليابان، إيرلندا، الهند، وكل مكان في هذا العالم، فهي تدخله في حالة حنين وشغف بالوطن وبذكرياته في بادية كردفان التي تقع في عمق أفريقيا. رد عليه الموسيقار محمدية بأن الموسيقى في مُجملها تعبير عن وجدان الإنسان، والريف في كل العالم مُتماثل ومُتشابه، وهو في كل مكان منبع للطيبة والعلاقات الودودة والتصافي والنفير والفزع، وكل هذه معاني للتكاتف والتلاحم والتقارب بين الناس، ولذلك ليس غريباً أن تُعبِّر موسيقى الريف من أي بلاد كانت، عن شخصٍ نشأ في الريف في أي بلاد كانت.

إذاً حمدوك ابن هذه الأرض، نشأ في كنفها وتربَّى بين تلافيفها، وسار في مناكبها حتى صار رئيساً للوزراء في ظروف استثنائية، تحيط به وببلاده التحديات، ويرمقه شعبه بعين الأمل.

حمدوك الذي تزوج من الدكتورة منى عبدالله رفيقته خلال مرحلة الدراسات العليا، أب لولدين تخرج أحدهما في الجامعة، والآخر ما يزال يدرس في بريطانيا وهو على أعتاب التخرج. رئيس الوزراء السوداني من مواليد العام 1956 بمنطقة الدبيبات في جنوب كردفان ولكنه اليوم رئيس لكل السودان، يحمل همَّه، ويغتمُّ بغمِّه، ويسعد بنجاحات يسهم فيها اليوم بقدر وافر، وله في السكة نحو الوصول موضع القيادة، ليس من موقع العارف بالدرب، بل من موقع العامل على تعبيده يداً بيد مع بنات وأبناء شعبه فإلى مضابط الحوار:

 –  يتساءل كثير من الناس عن نموذج (حمدوك) ابن الريف الذي شدَّ انتباه العالم .. كيف تمت صناعة هذا النموذج وكيف بدأ ؟

بدأ برحلة البحث عن المعرفة واكتشاف الذات .

–  كيف كانت ومتى بدأت تلك الرحلة الموصولة بطلب المعرفة ؟

كان ذلك في ستينيات القرن الماضي بمنطقة الدبيبات بجنوب كردفان حيث التحقت بالمدرسة الأولية ثم بمدرسة الدلنج الريفية الوسطى في العام 1968م وهي واحدة من ست مدارس في السودان في ذلك الوقت، وأكملنا الصفين الأول والثاني في الوسطى إلى أن تم تغيير السلم التعليمي في العام 1970 واضطررنا إلى دراسة المرحلة المتوسطة في ثلاث سنوات، لنكون بذلك قد قضينا خمس سنوات في هذه المرحلة بسبب هذا التغيير.

–  كيف يمكن أن نتصور طبيعة المدرسة والأداء التربوي في مؤسسة موصوفة في ذلك الوقت بأنها (ريفية)؟

لقد كانت المدارس الريفية يومئذٍ مدارس نموذجية تلتزم بمعايير الجودة في الجانب الأكاديمي والأنشطة المصاحبة في أجواء تربوية محفزة للإبداع والمشاركة في الحياة العامة، فبجانب قيمة التعارف بين الطلاب الذين جمعتهم المدرسة والداخلية من كل أنحاء السودان، كان هناك نشاط تنافسي غني جداً ابتداءً من انعقاد جمعية عمومية فيها سكرتاريات متخصصة تقدم خطاب دورة وميزانيات بدقة عالية في الجوانب الإجرائية الإدارية والفنية كتدريب عملي على برلمان مصغر، بجانب الأنشطة الرياضية المنفذة وبرامج العمل التطوعي في معسكر تربوي يقام مرتين خلال العام بالتزامن مع فصلي الشتاء والخريف، فيخرج الطلاب في هذا المعسكر خارج المدينة للقيام بأعمال طوعية لخدمة الناس بشكل مباشر كحملات إصحاح البيئة ونحوها من الأنشطة الطوعية، فكانت تربية وتدريباً عملياً على العمل العام والتغلب على التحديات خاصة وأن الذهاب إلى المعسكرات يكون في العادة سيراً على الأقدام إلى أية غابة يقع عليها الاختيار، ويقوم الطلاب بتوفير احتياجاتهم من البيئة المحلية. وهناك دوريات لحراسة الداخليات وحماية علم الداخلية من أي اعتداء بوصفه رمزاً للداخلية .

في تلك الفترة كانت وزارة التربية تخصص مبلغ 13.5 قرش لكل طالب شهرياً يتم تخصيص 12 قرشاً لتغطية نفقات الجمعية، ويُصرفُ للطالب منها قرش ونصف القرش متبقي مستحقاته الشهرية.

–  ثم ماذا بعد تلك المرحلة الدراسية الطويلة ذات الخمس سنوات؟

بعد ذلك التحقت بمدرسة خور طقت الثانوية وهي يومئذ واحدة من ثلاث مدارس (حنتوب –  وادي سيدنا)، كانت متنافسة في التحصيل الأكاديمي والنشاط التربوي .

–  ماهو أكثر ما تميزت به مدرسة خور طقت في ذاكرتك؟

أكثر ما ميزها إقامة ليالٍ ثقافية تسمى (ليالي السمر) تتنافس فيها الداخليات وكانت تقام يوم الخميس من كل أسبوع، ويشارك فيها الطلاب بالأعمال الثقافية والفنية بتكامل إبداعي يشمل الأداء وتصميم الديكور والإخراج المسرحي .

–  في هذا الخضم من التفاعل الطلابي ماهي أبرز الإضافات لحياة الطالب (عبد الله حمدوك) ؟

اتسمت تلك الفترة بثراء عريض من الثقافة والفكر المتجدد وفيها تفتحت أذهاننا على الحراك السياسي وتباين وجهات النظر، في منبر يسمى (سوق عكاظ) يعرض الطلاب خلاله أفكارهم باختلاف أو توافق عبر نصوص أدبية أو مقالات تعبر عن تحيز وانتماء لفكرة أو توجه عام .

–   في هذه الأجواء النشطة لطلاب المدرسة الثانوية أين يكثر حضورك في الحقل الاجتماعي أم الثقافي أم السياسي؟

شاركت في الحراك السياسي ضمن منظومة اتحاد الطلاب خاصة وأن الأنشطة السياسية في خور طقت كان يغلب عليها الشكل الأدبي، وليست مواجهات ومهاترات ولكنني  – مع ذلك – كنت أكثر تركيزاً على الجانب الأكاديمي .

–  زيارة العاصمة كانت حلماً لطلاب المدارس الريفية ولمعظم أهل الريف فمتى كانت أول زيارة لك إلى الخرطوم؟

في العام  الدراسي 73 – 1974 احتفلت مدرسة خور طقت باليوبيل الفضي وقامت بتكريم الطلاب الذين شاركوا في اللجنة التحضيرية تقديراً لدورهم في إنجاح الاحتفال، وكان من ضمن المكافآت تنظيم رحلة إلى العاصمة فكانت تلك هي أول مرة أزور فيها مدينة الخرطوم، أنا  وزملائي الطلاب من أعضاء اللجنة وكانت المرة الثانية عندما جئت للدراسة بجامعة الخرطوم.

–  كيف تصف شعورك وأنت تسمع اسمك عبر الإذاعة ضمن الطلاب المقبولين بجامعة الخرطوم؟

الأمر لم يكن مفاجئاً بالنسبة لنا ولا لأسرنا فطلاب خورطقت في العادة يتم قبولهم في الجامعات  وخاصة جامعة الخرطوم، ولكن شعورنا بالانتقال إلى العاصمة كان مصدر نشوتنا وسرورنا  وكأنه مؤشر جديد على فرصة العطاء والمشاركة في الحياة العامة .

– لعلَّ الانتقال من المرحلة الثانوية إلى الجامعة كان من أهم نقاط التحول في حياتك بحكم تغيير البيئة العامة والمناخ الطلابي، فإلى أين كانت وجهتك ؟

التحقت بجامعة الخرطوم كلية العلوم ثم إلى كلية الزراعة قسم الاقتصاد الزراعي، لتقديري في ذلك الوقت وقناعتي أن الزراعة في السودان تحتاج لجهود علمية وعملية لتكون هي الحل .

– ماذا عن نشاطك السياسي في الجامعة بعد هذا الانتقال؟

قضيت تلك المرحلة في عهد الرئيس جعفر نميري في أجواء يحظر فيها أي نشاط سياسي ولكن الجامعة كانت حافلة بالأحزاب السياسية، وكان الحراك السياسي واحداً من عوامل بناء شخصية الطالب الجامعي وتوسعة مداركه وهو مايجب أن يكفل لكل الطلاب من اليسار أو اليمين بضوابط أخلاقية يتم فيها احترام الآخر وتتحقق معها سلمية الاختلاف. وقد كنت في هذه المرحلة أكثر تفاعلاً مع الحراك السياسي فمسمى (الجامعة) فيه إشارة إلى أنها تجمع بين انتماءات متباينة اثنياً وثقافياً وبالضرورة سياسياً، وفي ذلك أتيحت لنا فرصة التعرف على المكون الطلابي الجديد بتنوعه وثرائه الثقافي والفكري وهذه من مميزات نظام القبول الموحد الذي شمل في تلك الفترة حتى المدارس الثانوية والوسطى، ليتمتع الطلاب بهذا النوع من الاتصال والتواصل الثقافي والتشبع بروح الوطن الجامع، وهذا يستوجب أن نعمل اليوم على إعادة فرص التقارب بين مناطق السودان المختلفة عبر الجامعات ومؤسسات التعليم العالي على الأقل وبالطبع الأجدى، أن يشمل ذلك المدارس بنظام الداخليات لولا ارتفاع التكلفة في هذا الأمر . وقطعاً لن يتحقق ذلك إلا إذا تمكنت الدولة من استعادة مجانية التعليم وهو ما نسعى إليه في هذه المرحلة، فلولا مجانية التعليم في تلك الفترة ما كنت بينكم اليوم.

–  روابط الطلاب في الجامعة لها تأثير لا يمكن إغفاله سلبياً كان أو إيجابياً أين كنتم من تلك الكيانات؟

كان لنا شرف التأسيس لرابطة جنوب كردفان ونحن في السنة الأولى في الجامعة برئاسة المناضل الراحل يوسف كوة مكي وفي معية القائد عبد العزيز الحلو، وعدد من الرواد الذين صنعوا تاريخ هذا الوطن وبادرنا بتنظيم أول معسكر باسم الرابطة في مدينة كادقلي سنة 1977، وقمنا بإنجاز حقيقي تمثل في بناء مدرسة في ريف المنطقة إضافة إلى سلسلة من الأنشطة والبرامج الخدمية والتوعوية، وكانت كغيرها من الروابط تعبر عن المنطقة لا القبيلة وقد اعتدنا في تلك الفترة أن ننسب أصدقاءنا إلى مناطقهم ولا نهتم بقبائلهم وما طرأ الآن على المجتمع من مواجهات قبلية يعد أمراً غير مألوف في الإرث السوداني وأن الاحتماء خلف لافتة صغيرة إثنية أو قبلية يهدد السلام الاجتماعي بالبلاد ويقدح في بناء الوحدة الوطنية .

– ماهي أول وظيفة لك في حياتك العملية؟

عملت بعد التخرج مباشرة في مشروع التنمية الريفية بجبال النوبة في قسم التقييم والمتابعة لمدة عامين، ثم انتقلت إلى وزارة المالية بالأبيض وهي مدينة جامعة لكافة أهل السودان، اتسعت فيها دائرة العلاقات الاجتماعية بجانب ميزات التجديد في الدور الوظيفي وتطور خبرات العمل.

–  على غرار  الانتقال من البيئة المحلية بمنطقة الدبيبات إلى الأبيض ثم إلى العاصمة الخرطوم، ماهي أول وجهة لك خارج السودان وكيف كانت؟

كانت أولى رحلاتي خارج السودان إلى الولايات المتحدة الأمريكية مبعوثاً من وزارة المالية لدورة متخصصة في العام 1985م.

– هذا يعني أنك لم تشهد انتفاضة أبريل؟

نعم كنت بأمريكا في ذلك الوقت ولكن مظاهر التغيير وأجواء الديمقراطية دفعتني إلى التعجيل بالعود، رغم أن فرصة تمديد الإقامة كانت متاحة ولكنني قررت العودة إلى السودان مباشرة .

– مشوار الدراسات العليا بدأ عقب تلك الفترة فأين ومتى كان على وجه التحديد ؟

التحقت بجامعة مانشستر في العام 1987م لنيل درجة الماجستير من مركز مانشستر للدراسات الاقتصادية والاجتماعية وتتميز الجامعة بمكانتها الأكاديمية وأيضاً موقعها الجغرافي، فهي تقع في مدينة عمالية في الشمال البريطاني بدأت فيها الثورة الصناعية وفيها تنوع كبير من ثقافات وجنسيات العالم، وفي هذا المناخ أتيح لي التعرف على كثير من الشخصيات المؤثرة في الحياة العامة منهم قادة حركات التحرر الوطني. ونشأت عن ذلك علاقات حميمة بيننا وبين قادة المؤتمر الوطني الجنوب أفريقي وغيرهم من رموز النضال في هذه القارة .

– كيق تُقيّم الوجود السوداني في مانشستر ومادرجة ارتباط الأكاديميين السودانيين بتلك الجامعة؟

العلاقة بين السودان وجامعة مانشستر علاقة قديمة وخرجت الكثير من العلماء منهم بروفيسور مدثر عبد الرحيم ودكتور بشير عمر ودكتور إبرهيم الكرسني ودكتور محمود صالح وعلي جماع وغيرهم، وفيها أكبر معهد للعلوم والتكنولوجيا درس فيه عدد كبير من السودانيين من كل التخصصات، وخاصة فى مجال النسيج فدورياً يسجل السودانيون فيه حضوراً مقدراً ويفوق عددهم العشرة دارسين في كل دفعة.

– ماهي الموضوعات التي اخترتها لرسالتي الماجستير والدكتوراة؟

تناولت في بحث الماجستير (تأثير آلية سعر الصرف على عملية الإنتاج الزراعي)

واخترت فيه ستة بلدان كدراسة حالة هي السودان – غانا – الكنغو – ملاوي – كينيا – وتنزانيا، أما الدكتوراة فكانت عن (الاقتصاد الكلي وعلاقته بالتنمية الزراعية واستصلاح الأراضي) بدراسة حالة زمبابوي

– كيف كان التسلسل بين فترة الماجستير وفترة الدكتوراة؟

حصلت على الماجستير في بداية العام 1989 وكان التقدير ومستوى البحث مرضياً للجامعة فأتاحت لي فرصة الدكتوراة، أعفتني فيها من الرسوم وكانت عالية جداً فاتصلت بوزارة المالية لاستكمال إجراءاتي، وكان الوزير وقتها دكتور سيد زكي ووكيل التخطيط محمد خير الزبير ووجدت اهتماماً وتشجيعاً منهم وصدرت في ذلك توصية باستمرار راتبي الشهري، على خلفية المنحة الدراسية، ولكن قبل اكتمال هذا الإجراء تم إعفائي ضمن موجة  إعفاءات الصالح العام التي قام بها النظام البائد  والغريب في الأمر أن قرار الفصل جاء من وزارة الزراعة رغم أنني لم أتعين فيها ولم أعمل بها مطلقاً. وعند ذلك قدمت للحصول على منحة من البنك الدولي في إطار التقديم العام وكنت  أول من حصل على المنحة من مجموعة المتقدمين السودانيين، وكانت المنحة مقيدة بعامين فقط لإكمال الدكتوراة يضاف إليها ستة أشهر أخرى، فبذلت جهداً مضاعفاً للالتزام بالفترة المحددة فحصلت على الدكتوراة ولم أتجاوز ذلك القيد الزمني.

– إلى أين اتجهت بعد الدكتوراة وأنت غير مرحب بك في السودان؟

اتجهت مباشرة إلى زمبابوي وعملت بها لأكثر من أربع سنوات ما بين ديلويت اند توش للاستشارات الإدارية في زمبابوي وبرنامج بالأمم المتحدة الانمائي UNDP))

– لماذا زمبابوي بالتحديد؟

كانت واحدة من خيارين أما هي وإما كينيا فاخترتها لأنها نموذج مختلف بسبب تأثيرات الاستعمار الاستيطاني وبعض العوامل الأخرى فكانت تجربة ملهمة جداً تخللتها إنجازات كثيرة، من بينها إعداد أول دراسة عن الفقر تستعين بها الدولة على تقسيم الموارد وشاركنا في كثير من المعالجات، وهذه بعض أسباب الارتباط النفسي والوجداني بيننا  وزمبابوي وهي مسقط رأس ابني الكبير (علي).

–  هذه التجربة الحية عشتها ضمن ارتباطك بمنظمات الأمم المتحدة وعدت إلى السودان بعد غياب طويل  مغادراً آخر وظيفة خارجية، وهي أيضاً في الأمم المتحدة فهل اخترت أن تكون خبرتك محصورة في هذا الكيان؟

خبرتي العملية لم تنحصر في الأمم المتحدة رغم أنها تجربة معتبرة اكتسبت منها الكثير من مطلوبات العمل والأداء المتوازن لاعتبارات الدقة والانضباط ومعايير الجودة المنصوص عليها في الوظائف الأممية، فقد انتقلت من موقعي في برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في زمبابوي إلى بنك التنمية الأفريقي بساحل العاج لمدة خمس سنوات من 1997م إلى العام 2001م، وبعدها انتقلت إلى مفوضية الأمم المتحدة الاقتصادية في أفريقيا بإثيوبيا لمدة عامين وبعدها إلى ديلويت اند توش في جنوب أفريقيا لمدة خمس سنوات،  رجعت بعدها إلى مفوضية الأمم المتحدة الاقتصادية بأديس أبابا نائباً للرئيس التنفيذي لمدة عشر سنوات ومنها إليكم في السودان.

–  إذا تجاوزنا الخبرة التراكمية في المنظمات الأممية وغيرها ما هو المكسب السياسي الشخصي من  تجربة العمل في أفريقيا؟

العلاقات المباشرة والحميمة مع زعماء أفريقيا وقادة التحرر الوطني تعتبر من أكبر المكاسب الشخصية كرصيد سياسي من المعرفة وتحليل وتلمس التجارب عن قرب والتعرف على سلوكهم السياسي ومنهج التفكير، وأتيح لي خلال تلك الفترة التواصل عن قرب مع السيد ثابو  أمبيكي والتعرف أكثر على شخصية مانديلا صاحب المعجزة الأخلاقية بعد أن ظل بالسجن 27 عاماً   ليخرج  بهذا القدر من التسامح، وهذا ما يجب أن نقتبس منه منهج العلاقات السياسية والإنسانية لنتحلى بمثل هذا الخلق الرفيع، فمهما حدث في بلادنا من تجاوزات وانتهاك للحقوق فلن يصل إلى ذلك الذي حدث في جنوب أفريقيا، وواجب كل أهل السودان أن يصطفوا لبناء سودان جديد يتجاوز مرارات الماضي وجراحات التاريخ بالصفح والسماح الذي يسع الجميع، مثلما تسعهم الأرض ونحن نثق جداً في وعي الشعب السوداني وقدرته على تجاوز المرحلة.

–  بعد هذا الغياب الطويل عن السودان هل اصطدمت بأي صعوبات في مهامك وأنت في الصف الأول تواجه التحديات؟

الغياب الفعلي كان من عام 1987 إلى 2013، ولكن وجدانياً لم يغب السودان عنا خلال هذه الفترة وكنا في نشاط دائم للوقوف إلى جانب السودان كوطن، أما بعد تلك الفترة فكنت أتردد على السودان مرتين أو أكثر في كل عام بحكم عملي المرتبط بالسودان.

–  الاتهام الذي يطال العاملين في المنظمات الدولية بالانحياز لأقطارهم هل يمكن نفيه أو إثباته؟

ليس بالضرورة أن يكون انحيازاً مخلاً بقوانين عمل المنظمات بل يكون في معظم الأحيان إيفاءً بحق الوطن، فحينما كنت في المعهد الدولي للديمقراطية والانتخابات في جنوب أفريقيا أسسنا أول مكتب فرعي في الخرطوم، ظل يعمل على مدى خمس سنوات في تدريب قيادات الأحزاب السودانية، والتقيت في ذلك بقيادات معظم الأحزاب الكبيرة والمعروفة في قائمة شملت المؤتمر الوطني والمؤتمر الشعبي والحزب الشيوعي وحزب الأمة والحزب الاتحادي الديمقراطي والحركة الشعبية.

–  في سلسلة لقاءاتك مع قادة الحركة الشعبية هل التقيت بالراحل جون قرنق؟

التقيت به لأول مرة عام 1996  في جلسة ثنائية كنت أتوقع أن تكون نحو عشر دقائق فاستمرت لثلاث ساعات من الخامسة إلى الثامنة مساءً بعدها انضم إلينا آخرون، فاستمر اللقاء لما بعد منتصف الليل وتبين لي ذلك اليوم أنه شخصية مدهشة واستمرت العلاقة والتواصل بعد ذلك حتى فارق الحياة.

ماذا  أخذت من السياسة وماذا أخذت منك؟

لم أمارس السياسة بالمعنى المتبادر إلى الأذهان وحظي من تلك الممارسة لم يكن إلا في فترة النشاط الطلابي خاصة وأن طبيعة العمل في المنظمات الدولية لا تسمح بممارسة السياسة، ولكن حضورنا بالرأي والتحليل في بعض المناسبات والحراك العام جزء من حق السودان علينا وليس بالضرورة أن يمارس السياسة كل من يحمل همَّ الوطن، ولكن الواجب أن يكون مهتماً ومتابعاً وأعتقد أن معظم الخيارات التي اخترتها لحياتي كانت نتيجة لوعي سياسي مبكر أسفر عن نتائج حقيقية في تجربتي. وفي المقابل لم تأخذ السياسة مني شيئاً لأني لم أدخل في ميادينها كما فعل كثير من أصحاب النضال والتضحيات، ولكن كنا نشاركهم الهموم بشكل مستمر.

–   بهذه المسافة بينك وبين النشاط السياسي هل ترددت في قبول التكليف برئاسة مجلس الوزراء؟

لم يكن تردداً ولكن قرار الموافقة استغرق مني بعض الوقت لأني أعتقد أن هناك من هو أولى وأجدر بذلك من الذين قادوا الثورة العظيمة وصنعوا التغيير من الداخل في وقت كنا فيه بالخارج لفترة طويلة، ولكن عندما وضع التكليف أمامي كخيار لبناء السودان قررت الاستجابة وفي خاطري ترتسم تضحيات الشهداء والجرحى والمفقودين، ولم يعد الأمر يستحق المقارنة بين الوقوف إلى جانب السودان وأهله وبين وظيفة قيادية في الأمم المتحدة،  فهي أقل ما يمكن أن أتنازل عنه لأهلي في السودان رغم تبعات هذا الأمر والتكلفة الاجتماعية العالية على حساب الأسرة الصغيرة والمحيط الاجتماعي الكبير، ولكنها سانحة للمساهمة في بناء سودان الغد.

–  هل بالإمكان تحويل أدبيات الثورة إلى برامج عمل وخطط واقعية؟

من أكثر ما أعجبني من شعارات الثورة ( يا عنصري ومغرور كل البلد دارفور) لأنه جزء من التعويض النفسي لأهل دارفور الذين تعرضوا للانتهاكات والإبادة الجماعية، ولكونه يبعث الأمل في نفوسهم ويؤكد واقعية التعايش سلمياً في وطن واحد

– ما هي رسالتك للشباب؟

أقول لهم لقد أنجزتم أعظم ثورة في تاريخنا المعاصر فلابد لكم من حراستها ويجب أن لا تغيب عن أعينكم القضية الإستراتيجية لنبني دولة حديثة نفخر بها، فنحن بحاجة إلى ضم قوانا وحشد طاقاتنا لنتحول من مرحلة إسقاط النظام إلى مرحلة البناء، فالتحديات في هذه المرحلة أكبر من مرحلة الإسقاط ونحن بحاجة إلى تطوير ميثاق الحرية والتغيير الذي تم توقيعه قبل عام، لأنه وضع لتحقيق حرية وتغيير فاليوم نريد أن يكون الميثاق لبناء السودان الجديد الذي نحلم به جميعاً، ولابد لكم من وحدة الصف والحفاظ على جذوة الثورة متقدة وأنا كلي ثقة في هذا الشعب العظيم لنقدم للعالم أنموذجاً يحفظ في أوعية التاريخ.

خاتمة

إنه يتصف بكفاءات متعددة وخبرات واسعة ويتمتع بذكاء وفطنة ومهارات كافية لإدارة المواقف الصعبة والمعقدة وهو الحائز تقدير واحترام الكثير من الزعماء الأفارقة بعلاقات تاريخية وصداقات عميقة،

لهذا ولكل ما عرف به الدكتور عبد الله حمدوك انطلقت آمال الثوار معقودة عليه قائداَ للإصلاح وداعياَ  للتغيير بعزيمة مستمدة من إرادة شعبية وانتماء لهذا التراب، فاختار أن يحمل العبء ويحمي الأرض

حللنا ضيوفاً عليه فألفيناه  غارقاً في الهموم مثقلاً بالواجبات لا يكاد يجد سانحة لاسترخاء

ولكنه لقينا ببشاشته المعهودة وابتسامته التي لا تفارق محياه

فأخذناه في رحلة الأنس

والذكريات للطفولة والصبا والشباب والعطاء الناضج

وتحدث إلينا حديث القلب في جلسة خارج أسوار الحكم والسياسة، فكشف لنا عن صفحات مهمة في تاريخه الخاص واستوفينا من تجربته ما نريد وأكثر، ويكفي أن نقول

شكراَ حمدوك  ..

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى