أحزانُ الوطنِ تتجدَّد

فُجِعت البلادُ الأسبوع الماضي بتمرّد هيئة العمليات التابعة لجهاز الأمن سابقاً، مما جعل الحكومةَ تتعامَل بحسم لا يخلو من سيل الدماء من قتلى وجرحى. يبدو أن الوطن كان وما زال لا يعيش إلا تحت وقع أصوات الرصاص منذ دخول الأتراك، وإلى يوم الله هذا، هذا إذا علمنا أن الاستعمار كان  غريب اليد واللسان، فيمكن أن يفعل أي شيء غير إنساني في أبناء غير جلدته، فكيف أبناء جلدتنا يفوقون المُستعمِرين في المُعالجات النارية والركل بالنبّوت والضرب بأعقاب البنادق والإساءات العنصرية التي تصل أحياناً إلى أسوأ ما يتلفّظ به العنصريون. 

منذ الاًستقلال والبلاد تنزف دماً زعّافاً، وإذا سلّمنا جدلاً أن معظم تِلكُم الحقب كانت شمولية ودكتاتورية تضع القانون في الرفوف وغاية أمانيها المُحاكَمات خارج القانون، فكيف بعد الثورة التي شعارها حرية سلام عدالة. قبل أشهر انفجر الموقف الدموي في القضارف وثنّى ببورتسودان وثلّث بالجنينة. وكلها بدأت بقضايا فردية تافِهة بسبب صفيحة موية وكباية شاي وسرعان ما سَرَت النارُ في الهشيم وأزهِقت الأرواح البريئة الضعيفة المسكينة. بما أن كل هذه الولايات يحكمها عسكريون وهم الأمل والرجاء للوطن بعد الله سبحانه وتعالى، إلا أن الذي يحصل بين أيادي هؤلاء الولاة يشيبُ له الولدان. لا قرون استشعار تتحسّس الحَدَث قبلَ وقوعِه ولا تخفيف وطأته بعد وقوعه، ولا ثقافة اعتذار واستقالة. وحتى رؤسائهم لا يتّخذون القرارَ المُناسِب في الوقت المُناسِب بعزلِ هذا المسؤول العاجِز فوراً عندما كانت الدماء تسيل والأرواح في سكراتها بل يُجامِلونه ليحفظوا له ماء وجهه ليُعفَى بعد أسابيع من جريمته. وكأن دماء المواطنين (بسس وطيور) ما معنى الثورة إن لم يكن فيها العدل والحسم والعزم. ما معنى الثورة إن لم تختار الشخص المناسب في المكان المناسب. ما معنى الثورة إن لم تمسح دمعة المظلوم والوقوف مع المكلوم. ما معنى الثورة إن لم يحس المواطن أن هناك فرقاً بين حكام الأمس وحكام اليوم، إن لم نجد هذا ولا ذاك فلتذهب الثورة إلى مزبلة التاريخ، وليعُد الاستعمارُ من جديد. مشكلة الجنينة الأخيرة سببُها الوالي ولجنته الأمنية بامتياز، لأن المشكلة بدأت فردية في يوم، ثم تطوّرت في اليوم الثاني والثالث، ولم يُقبَض على الجناة، ولم تُوضَع أي تحوُّطات أمنية وكأن المواطنين ملائكةً ورُسُلاً. لا يُعقل هذا  أبداً إلا إذا كان هناك خلف الأكَمَة فيها ما فيها. وفي فمي ماء.. نرجو ونكرر ألا تتكرَّر مثل هذه الأحزان. وإذا كانت هناك عوائق أمام الولاة لحفظ الأمن فلا يترددوا في طرحِها أمام الحكومة بِشِقَّيْها السيادي والتنفيذي. وإلا سوف تَعُم الفوضى وتضرب بأطنابها أكباد الوطن، عندها سوف لا ينفع الندم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى