العزل السياسي والمضار الوطني

لم يبدأ الاستقلال حتى بدأ العزل السياسي. وكما قلنا سابقاً فإن الجنوب عُزل عزلاً سياسياً مبكراً منذ أن التزمنا ببرامجه السياسية ثم نكصنا وحنثنا، وكان ما كان لبداية مشكلة الجنوب في ١٩٥٥ وانتهاءً بانفصاله ٢٠١١ وما ترتب على الحروب من ضياع للسودان. ثم جاء العزل السياسي الثاني عندما قام معتوه فكري يتبع في عضويته للحزب الشيوعي بالإساءة لبيت النبوة. فقام المتاجرون بالدين بالتحريض ضد الحزب الشيوعي الذي لم يتخذ قراراً بهذه الإساءة. ولم يفوّض هذا المعتوه ليقول هذا الكلام المشين القبيح. لكن مضى التحريض إلى تحطيم القاعدة الديمقراطية التي تقول تنتهي حريتك عندما تبدأ حرية الآخرين، وحطموا قاعدة قرآنية القائلة “ولا تزر وازرة وزر أخرى”، وقاعدة عُرفية وقيل فيها مثل.. “الجريمة كلب تتبع سيدها”، لحقد وخوف وجزع سياسي حرّض هؤلاء ضد الحزب الشيوعي حتى تم شطبه وطرد أعضائه من البرلمان على اعتبار أنهم يتحملون إساءة طالب معهد المعلمين العالي الذي يتبع للحزب الشيوعي ومنذ ذلك العام ١٩٦٧ والشيوعيون يدخلون تحت الأرض يغوصون في بحارها ليخرجوا لنا علناً بانقلاب مايو الذي رجع بالبلاد سياسياً وفكرياً واقتصادياً واجتماعياً وإدارياً وعلاقات دولية متردية حتى أسقط في انتفاضة شعبية في ١٩٨٥. ولما جاءت الديمقراطية الثالثة والتي لم تكن بأفضل من سابقتيها وقفت هذه المرة ضد الجبهة الإسلامية مقابل الشيوعيين. أخرجت الجبهة الإسلامية من الحكومة ولها ٥١ نائباً ليدخل الشيوعيون حكومة ما سُمّيت بحكومة القصر، ولهم في البرلمان ٣ نواب فقط. فغاص الإسلاميون في أعماق أرض السودان ليخرجوا في العلن من قرية ميوم بالعميد عمر البشير ليقود انقلابهم في ١٨٨٩. هذا الانقلاب الذي مكث في حكم البلاد ثلاثين عاماً ذاق خلالها الشعب المُر تلو المُر. ضيق في المعيشة. أمراض فتاكة واقتصاد كل عام يرذل جاء بأيدلوجية مستوردة ليزرعها في السودان ولم يستطع أن ينجحها ودفع الشعب ثمنها .. كبت الحريات وكمّم الأفواه وقامت في زمنه معظم الحروب سواء في إطار الصراعات القبلية أو حركات مسلحة ضد المركز. وأخيراً فصل البلاد وقسمها إلى دولتين، كل ذلك تم بسبب الإقصاء. والآن نعيد ذات السيناريو البغيض كلما دخلت أمة لعنت أختها. ولأن التكوين السياسي هش بل ومبتذل. مثلاً واحد يرجو وزارة وعندما حزبه لم يرشحه لها لأي حسابات كانت.. يخرج هذا العضو لينضم حتى لحزب الشيطان أو يصبح عميلاً يهد المعبد على الجميع. وبهذا الضعف السياسي وهشاشة الدولة السودانية ربما  يدخل الإسلاميون تحت الأرض مرة أخرى وسيجدون من يقف معهم داخلياً وخارجياً ليقلبوا النظام الحالي رأساً على عقب (وما تقول لي الاتحاد الإفريقي والمجتمع الدولي حرّم الانقلابات) هم عندما يحكمون لا تهمهم الشرعية وحتى إذا حوربوا سياسياً واقتصادياً لن يدفعوا الثمن وإنما سيدفعه الشعب كما حصل سابقاً. وما أشبه الليلة بالبارحة. وحتى نخرج من ساقية جحا هذه أو حجوة أم ضبيبينة، أرجو أن نراجع سياساتنا السابقة ولا نكرر أخطاءها الحجل في الرجل. وأعتقد أن المرتكزات التي يجب أن تكون مرجعيتنا تتمثل في الآتي: الحكم الأعدل هو حكم الله فليعلم أي قاتل أو فاسد فإن أخفى شيئاً في الأرض لا يخفى على الله في السماء. فليتحلّل وليس كالتحلّل الاستهبالي السابقن وإنما تحلُّل شرعي يعرف أوجهه العلماء. هناك الحكم العادل وهو اللجوء إلى القضاء المستقل النزيه في محاكمة الضباط الذين قوّضوا الدستور والمدنيين الذين ساهموا وخططوا معهم الانقلاب. ومحاكمة الذين عذبوا الناس وقتلوهم الذين في كافة القوات النظامية وشركائهم.. والذين أفسدوا في الأرض من يخرج بريئاً نهنئه ومن حوكم فعليه. وأخيرا نأتي لمحكمة العدول والعدول هم الشعب الواعي الرشيد الذي يعرف من الذي حفظ له ماله ومن الذي أفسده يعرف من الذي أحياه ومن الذي قتله ويعرف من الذي وحّد البلاد ومن الذي مزّقها وقسّمها إربا إربا.. وهذه المحكمة تكون أمام الصندوق الانتخابي وهي المحكمة التي يُكرم فيها السياسي أو يُهان. أري أن ننحت عقولنا لنتفق على بدائل غير الحجر السياسي الذي نعرف نتائجه رأي العين. المهم أن نفكر ونقدر وللأمور ندبر بحصافة وبكياسة وبشجاعة حتى لا نكرر أخطاء الماضي المقيتة. وأهلنا يقولون “الحار بلحق والبارد بلحق”. والله المستعان 

د. محمد عيسى عليو

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى