“الواتساب” والمجتمع

*قبل أن يصبح العالم قرية صغيرة أو لنقل “غرفة”، يعلم الجميع ما بداخلها، كانت النفوس متراضية والقلوب نقية، والزمن واسع يكفي لأن أن تذهب لعملك ثم تأتي لتناول وجبة الغداء وشرب الشاي في ضل “العصرية” وتتابع الأخبار وتشاهد المسلسلات ثم تنام والزمن لم يذهب بعيداً على مقربة من منتصف الليل.

*كان العالم حينها تربطه أسلاك الهواتف العمومية، ولم يكن “سماسرة” الأسواق يعلمون سعر الغد من المساء “لعدم وجود التكنولوجيا”، والاقتصاد كان يسير بصورة متسامحة مع ظروف “الغلابة” فلا ينام عامل وأطفاله جوعى ولا تنقطع رجل عن ستر جنازة أو مواساة عزاء بعيد.

*الآن أصبح العالم كله في يدك وليس في غرفة صغيرة وعبر جهاز المحمول الذي بين أصابع يدك بإمكانك أن تنقل أخبار “أم دافوق” في أقصى حدود جنوب دارفور إلى “سدني” حيث أقصى حدود العالم في أستراليا.

*استفاد العالم كثيراً من التقنيات الحديثة في إحداث فارق كبير في العديد من الدول، وفي السودان أصبحت وسائل التراسل الاجتماعي هي المحرك للمجتمع وللشارع في كل شيء.

*حينما قطعت حكومة الإنقاذ الخدمة عن وسائل التواصل الاجتماعي نجح شباب السودان في إيجاد مخرج لهذا الانقطاع وتواصلت الثورة، وعند القطع الكامل للانترنت بعد نجاح الثورة لم يقلب الشعب السوداني في إيجاد وسيلة لإخبار المواطنين بالخروج للشارع وصنع المتاريس.

*استفاد الشعب السوداني كثيراً من وسائل التواصل الاجتماعي ولكن في نفس الوقت جعلت هذه الوسائل أهل السودان اأقل نخوة ومشاركة في الأفراح والأتراح، وأثرت هذه الوسائل بصورة كبيرة على عادات المجتمع السوداني السمحة والتي كان يضرب بها المثل في كثير من المجتمعات العربية.

*الآن في السودان أصبح تلقي العزاء عبر “الوتساب” أمراً عادياً ويعتبر المرسل التعزية أنه وصل إلى سرادق العزاء ولا يكلف نفسه عناء الوصول إلى مكان العزاء.

*أصبح الآن تلقي التعازي يتم عبر الواتساب وكان شيء لم يكن، ولا يكلف الشخص الوصول أو الاتصال عبر الهاتف لإيصال التعزية.

*ربما من المجتمعات القليلة جداً في العالم العربي والتي كانت تهتم بأمر مواساة أهل المتوفى هو المجتمع السوداني الذي عرف عنه الترابط والوفاء والكرم، وفي السابق كان عندما يتوفى شخص أهله لا يفعلون شيئاً فأهل الحي هم الذين يقومون بكافة الإجراءات حتى يتم “ستر الجثمان” ثم تبدأ الوفود تتوالى إلى سرادق العزاء حتى الأهل والأصدقاء البعيدين عن مكان الوفاة يكلفون أنفسهم مشقة الوصول لمواساة أهل المتوفى وتقليل أحزانهم على فراق عزيز لهم رحل عن الفانية.

*أما اليوم فنجد عند وفاة عزيز لك، تبدأ رسائل التعزية في الوصول دون أن يكلف الشخص نفسه بالاتصال هاتفياً أو الوصول إلى مكان العزاء، حتى أصبحت التعزية عبر الرسائل كافية “للفاتحة”، ونسي الكثير من أهل السودان مثلنا القائل “البكا لي حولو بجيب زولو”.

*نسأل الله أن نحافظ على بعض عاداتنا السمحة التي تفقدها الكثير من المجتمعات العربية، حتى لا يأتي يوم ونصبح مثل بعض الدول التي يكون فيها العزاء لساعات فقط وبعدها ينسى الميت وأعماله الطيبة وسط أهله.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى