عامان من الرحيل

*بعد عمر تجاوز الثمانين عاماً استقبلت مقابر قريتنا (سعادة الكواهلة) ريفي أبوقوتة بولاية الجزيرة صباح السبت منتصف شهر سبتمبر قبل عامين جثمان والدي (عبد الرحيم الشيخ أحمد)؛ وذلك بعد معاناة مع مرض أصاب بطنه.

*ولأن من طبع الإنسان الابتلاء بكل أنواع الداء؛ ليعلم الله جل شأنه من يصبر ومن يتضجر بسبب تعب ذاك الداء فقد كان الوالد رحمة الله عليه صابراً ومحتسباً الأجر من ربه عز وجل فلم يتزعزع طوال فترة المرض التي قاربت العام.. نعم والله؛ ظل ذاك الجسد النحيل يتجول به أبناؤه بين مستوصف خاص ومستشفى حكومي لما يقارب العام طلبا للدواء تصديقاً لقول الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم:(لكل داء دواء إلا السام)…

*وصدق رسول الرحمة حين استثنى الموت بعدم وجود علاج له، فهو ذاك المصير الذي لابد منه.. وكل يوم من تلك الأيام يزداد المرض، ويتمكن من ذاك الجسد النحيل؛ بينما ظل هو في صبر وثبات رهيب واحتساب للأجر بالرغم من أن (الأوردة) تتوقف في بعض الأحيان عن ضخ الدم وتصعب بالتالي عملية تثبيت (الفراشة) التي تساعد على تمرير الدربات وغيرها بهدف العلاج؛ وهنا ظهرت شجاعة أطباء وسسترات بلادي وصبرهم اللامحدود مع المرضى بحسب الإمكانات المتوفرة لهم.

*وبكل تأكيد فلم يكن ذاك الصبر على المرض غريباً على(ود الشيخ أحمد)؛ سيما وأن والده هو ذاك العالم الزاهد والقاضي العادل والأب المربي الفاضل الذي درس علوم الشريعة بالأزهر الشريف كأحد أوائل السودانيين الذين هاجروا إلى هناك طلباً للعلم الشرعي.. لذلك كان من الطبيعي جداً أن تكون نشأة أبنائه في تلك البيئة الرهيبة وذاك البيت المتواضع المكتظ بكافة أنواع الناس طلباً للعلم أو للتساؤل في أمور الفقه والشريعة أو لحل قضية أسرية؛ فتعلم أبناؤه ومنهم عمي عبد الرحمن ووالدي وغيرهما عليهما الرحمة والمغفرة ومن توفى منهم، ونسأل المولى طول العمر لمن بقي منهم وتعلم الكثير من القرآن وعلوم الفقه والشريعة ودرسوا في مدرسة الحياة فصاروا عباقرة في كل المجالات بالرغم من أنهم لم ينالوا حظهم من التعليم الأكاديمي.. وظل والدي رحمة الله عليه مثقفاً يتحدث عن التاريخ السياسي للسودان فيمتع السامعين؛ بل ويكاد يحفظ كل ما يقوله المذيع من أخبار سياسية في النشرات الإخبارية عبر راديو (هنا أمدرمان).. وظل كذلك ملتزماً بانتمائه لطائفة (الأنصار).

*وبعدما عرف تمكن المرض من جسده رفض كافة محاولاتنا للسفر إلى الخرطوم من أجل مقابلة الطبيب لإرادة الله بأن يكون موته داخل غرفته التي شهدت معظم لحظات قيامه وسجوده أثناء الليل والضحى؛ وهكذا انطوت سيرة زول (زاهد جداً في الحياة)، عمل كل حياته للناس ومن أجلهم ولم يزعل منه أحد طوال حياته، وعمل بكل جد واجتهاد على تربيتنا بعرق الجبين وبشهادة كل معارفه.. وأكثر عبارة معبرة هي ما قالها أخي ابن عمي والي الدين: (بموت أبونا عبد الرحيم فقدنا الدليل الذي كان يوجهنا للطريق القويم)!!.

*اللهم هذا عبدك عبد الرحيم وأنت أعلم به منا؛ اللهم فاغفر له وارحمه وعافه وأعف عنه وتجاوز عن كل سيئاته وأبدلها حسنات وأغسله بالماء والثلج كما يغسل الثوب الأبيض من الدنس وأدخله الجنة وجميع موتانا وموتى المسلمين يا رب.

محمد عبد الرحيم (أبو جدو)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى