منى أبو زيد   :  أكتب وأنا ما زلت أسيرة ذلك القلق المُمتع

29 اكتوبر 2022م

“قيمة الصحة أكبر من قيمة التعليم”.. توماس أديسون

أكتب هذا المقال بعد أن فرغت من قراءة أعظم كتاب يتناول بالبحث والتاريخ والجرح والتحليل – والرؤية الإصلاحية المُتكاملة – أهم القضايا في تاريخ الصحة العامة بالسودان. أكتب وأنا ما زلت أسيرة ذلك القلق المُمتع، والعصف الذهني اللذيذ الذي يعقب قراءة المؤلفات الفذّة. ذلك أنّ الكتاب ليس مؤلفاً علمياً فريداً فحسب، بل قطعة أدبية سَلِسَة ومُمتِعة..!

كتاب “أطباء السودان الحفاة.. قصة نجاح بهرت العالم”، الصادر عن دار النشر بجامعة الخرطوم، لمؤلفه الأستاذ الدكتور حسن بلة محمد الأمين – أستاذ طب الأسرة وطب أطفال المناطق الحارة بجامعة الدمام، وأستاذ الصحة الدولية بجامعة جونز هوبكنز – تكريم نبيل لعظمة نساء السودان وجهد علمي، أكاديمي، أدبي، سياسي، اجتماعي، عظيم. استغرقت مراحل مخاضه وعملية ولادته أربعة عقود من الزمان قضاها مؤلفه في التوثيق لرائدات مهنة القبالة في السودان، والغوص في أسباب نجاح تجربة أكاديمية اجتماعية فريدة، كانت – ولا تزال – مثالاً يدرس في أعرق جامعات العالم..!

كان هذا قبل أن ينحسر احتفاء المُجتمع بهذه المهنة وتنهار مُقومات نجاح التجربة بفعل عوامل التعرية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، فيسجل السودان أعلى نسبة لوفيات الأمّهات – أثناء الولادة – في العالم، بعد أن كان أرض الأمومة الآمنة..!

وسر التسمية – كما يقول مؤلف الكتاب – هو حفظ حق الداية السودانية في ريادة الطب الحافي. فالسائد عالمياً أن المصطلح يعود إلى العمال الصحيين غير المتفرغين الذين ظهروا في الصين منتصف الستينيات، ولكن الصحيح هو أنّ بلادنا هي الموطن الأصلي للمصطلح الذي ظهر في العشرينيات، فالداية السودانية هي أول طبيب حافي العالم..!

في خاتمة الكتاب جملة توصيات جديرةٌ بالتناول والدراسة من الجهات التنفيذية المعنية، ولو تبنّى القائمون على أمر الصحة في السودان ثلث ما جاء فيها لفعلوا خيراً كثيراً بملايين الأمهات والحوامل – الواقفات على تخوم الموت – في قُرى ومناطق السودان النائية..!

في الكتاب حواراتٌ مأخوذةٌ من تسجيلات صوتية نادرة مع أعظم رائدات المهنة في السودان وهن يتحدّثن بإسهاب عن سر نجاحهن الأعظم “تمسكهن الصارم بأخلاقيات المهنة التي حفظت مكانتهن المرموقة في المجتمع” وليت الإذاعة السودانية تتبنّى قضية ارتفاع مُعدّلات وفيات الأمهات من خلال طرح مُحكم لمضمون الكتاب، بالتزامن مع إذاعة تلك التسجيلات النادرة، فيقف المسؤول قبل المواطن على أسباب نجاح التجربة مُقارنةً بما آل إليه حال الولادة الآمنة في السودان..!

“أطباء السودان الحفاة” ليس كتاباً فحسب، بل أيقونة باهرة لنجاح العالم والطبيب المغترب في تفكيك أعقد القضايا المحلية الشائكة، وجهده الكبير في معالجة، المشكلات واجتراح الحلول الناجعة، العابرة للقارات، مستثمراً خبراته المُكتسبة من علوم الغربة، ومعملاً نظرته الشاملة في مواطن الخلل من خارج الإطار..!

مغترب وطني يقول للقائمين على أمر بلاده اهتموا بالتاريخ والتوثيق، تحرّوا الانتماء والتميز في كل عمل. اغرسوا الفضائل لا التوقعات، تعلّموا من ذلك الإنجاز النسائي المحض، وثقوا بأنّنا قادرون على الإبداع والابتكار لأننا أصحاب سبق حضاري..!

[email protected]

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى