علي مهدي يكتب: احذروا مذابح (رواندا) وامشوا نحو حوار يفضي إلى شراكة للكل بلا استثناء

10ديسمبر2022م

فرص الاختلاف تتعاظم مع تقاطعات لن تُحقِّق وحدة مرجوّة ومستقبل أفضل لوطن يسع الجميع
تذكّروا في مائة يوم مات 800000 إنسان من أجل غباء أخيه الإنسان وبعدم الاتفاق
عُدت يا سادتي ذاك الصباح امشي اليها وفيها (باريس)، مستجيبًا لدعوة معالي المديرة العامة (لليونسكو)، أقول ساعتها كلمتي مع عدد من مبدعي أفريقيا والعالم، نخاطب احتفالها (باليوم العالمي للتفكر في الإبادة الجماعية) وأحداثها المُرعبة، وأعني المائة يوم السوداء في (رواندا)، ذاك التاريخ مات فيه بالأرقام الأقرب للدقة، 800000 إنسان، “أب وأم وأطفال”، ولي حكايات عنها ساعات وأيام المجزرة، سمعتها عن قرب يوم زرت بعض المدن والقرى، والتقيت بمن نجوا منها حكايات الموت، وأخاف استعادتها، خاصة ما سمعته مباشرة من بعض الضحايا الناجين، وتلك المجزرة، أو ما قُلنا بعدها عنها، أكبر إبادة بشرية يشهدها الوقت المُعاصر، والمدنية ترفرف بأجنحة، نقول عنها أوقات السعادة الكونية، والمجزرة الكبرى تحدث أمام الناظرين بلا رحمة، وفي أزمان التواصل الأعلى والأجود تقنية، والتواريخ معها هذه الحكاية التي تظلل دهليزي، يلفني إدراك عميق باستحياء إنساني واسع، بلا استثناء، يلف الكون كله، من عجز الإنسان في عون أخيه الإنسان، وإن طالت المسافات.
واليوم السابع من ابريل من كل عام ظل يكرّس بعدها لاستذكار تلك (المائة يوم)، يوم مجزرة كبرى.
بالأرقام، وفي مائة يوم، مات (800000) إنسان بلا معنى، وفي ظل فوضى إنسانية عارمة، وفي وقت وجيز يموت هذا العدد، (800000) من بني البشر. واستعيد الأرقام كلما أقدر لأزيدكم خوفاً من التكرار، إذا لم نستمع لأنفسنا في سعينا لبناء التفاهمات المُمكنة في الوطن الحدادي مدادي، رغم بُعد المسافة والأخرى، في الفكرة لفرص التلاقي بالحد الأدنى من الحوار، لا الاتفاق، ولماذا هو بعيد؟ وغير ممكن الآن؟
في وطن قلنا إنه يسع الجميع، معترفين بالتعدد والتنوع.
أعود لليوم الذي انظر إليه بكثير من التقدير لمناهضة العنف، كل أشكال العنف المفضي للفوضى، وألمح أيامي الماضية في الوطن السودان ، وطن الجدود ، عنف لفظي حاد ، وعلى جانبيه تمشي فرص أن يتحول الى عنف حركي، وتتسع المسافات الآن بين أطراف الشراكة الوطنية في سعيها لإعادة بناء الوطن، عبر الحوار الحر الديمقراطي، حوار تتساوى فيه الفرص الممكنة – إذا وجدت -.
وانظروا الى ما بعد رقم الضحايا في معركة (رواندا).
قتل (الهوتو ) 800000 من (التوتسي) بلا أسباب صراع مؤكد، نعم كنت هناك بعد المجزرة بقليل، وحُظيت بالحوارات المُمكنة رغم ما كان يحيط بزيارتنا تلك من مخاطر يومها. والأمم المتحدة وقواتها حاضرة، تحرس بقايا تواريخ أفريقيا المظلمة، وتحدثت الى بعض الناجين، لا أسمع من الصوت إلا أنيناً وبكاءً مستتراً، ولا تحتاج الى ترجمة لحظتها، لا اللغة حاضرة، ولا التصاوير الممكنة ممكنة، كله ظلام النفس الأمّارة بالسوء، قتل بلا معنى. ووقفت في فضاء كبير، كان بعض من سوق أضحى تلك الأيام المرعبة مركز إيواء مؤقت وعيادات لا يتوفر لها إلا الصبر بدلاً من الأدوية. ونظرت قبل ايام في الخرطوم عموم امشي وكأني حافي حالق من ولهي في شارع (الجمهورية) من الغرب الى الشرق ، ومحوت إشارات المرور والمباني، بنوك ومحلات وممرات ، وبائعة جوالين، ووكالات السفر ليس كما عرفتها نصف القرن السابق أو أبعد، وناس تمشي ولا أظنها تعرف وجهتها، ومقاهٍ قديمة أغلقت على نفسها أبوابها، فلا طالب لقهوة أو مختلف مع الساقي حول عدد ملاعق السكر في كوب الشاي، يوم كان المقهى أنيقاً، ولا المقاعد تضج بالحضور في حوارات الرياضة والثقافة والفنون وبعض العلوم، خرطوم الجن كما انها ليست أنها هي غير ، ولا تنشغل بحوار السياسة الدائر غير بعيد عنها، لكنه بعيد عن الناس. ورجعت نظرت في الشارع الفسيح، يمشي بلا تردُّد من عند (بحر أزرق) نحو الجنوب، تمر فيه بالحديقة التي شهدت ما علمت من أحداث، ومات فيها شباب طيب وعُدنا اليها نسجل وقائع التاريخ المجيد لثورات السودان، فن ومسرح وغناء. شارع القصر، وفي ساحة القصر. مشهد ينتظر الاتفاق، وفي ظل الصورة عندي ، انه اذا لم يتفق السادات بأعجل الأوقات على شكل الحكم الوطني الممكن والشراكة المنفتحة على الجميع، سيكون غير ما هو عليه الآن، ولن تجد فيه زحام الناس والمركبات، ستجاهد أن لا تمشي على الجثث، شباب وأطفال كانوا مع أمهاتهم فحدث الاقتتال، وخرج الحوار من القاعات إلى الشوارع الغنية بأهلها ومات من فيها.
وسؤالي هل سيكونون اقل من مات في مائة يوم في رواندا بين القرى والمدن؟
هل سيصل العدد الى أكثر من 800000 شهيد؟ ممكن وقد يكون أكثر هناك في المدن البعيدة، لا تعرف الإحصائيات.
ثم مَن يقتل مَن؟
يومها وفي مدينة (كيجالي) حاضرة رواندا اطلعت ومن القَتلة أيضاً لا الضحايا على تفاصيل أبعد ما نكون نحن في الوطن عنها،
لم يكن للمجزرة سبب غير اختلاف الإشارة، ولا يعطيك الفاعلون حجة، وسببا عميقا لهذا الرقم 800000 ماتوا في مائة يوم.
ثم انظر لحال المشهد الوطني، كم يوم مضى على فرص التغيير الممكنة وضاعت بالوقوف في محلك سر، لا فرصة ممكنة ولا أخرى متاحة تضيع كلها بلا معنى أو سبب. أظني الأكثر ثقةً أن أهلي في الوطن الآن أكثر قُدرةً على الاتفاق. نعم عندي أمل، وأرى في العتمة ضوءاً بقدرة لمبة الزيت رفيعة الحال بهية الضوء.
وقبل أن يأتي يوم تجلس فيه الجمعية العامة للأمم المتحدة لتقرر بشأن ضحايا العنف الوطني، في المشهد الوطني، والذي تغيب عنه شروط الوطنية، ولن يحدث. سيجلس أهلي بكل الفرص الممكنة، ليوقفوا نزيف الطاقات المهدرة، ويحافظوا على فرص الاتفاق الممكنة.
في عام 2003، كنت شاهداً مع الكثيرين على تلك الجلسة في (نيويورك) وهي تحتفي بواحد من أعيادها الكثيرة المفرحة، وقفت مع البعض، جئنا من مناطق مختلفة لنشكل حلقة كبرى حول المبنى الأشهر فيها، تماسكنا بالأيادي، ونظرت في لا شيء، لا الشارع الفسيح يعصمنا من قلق مقيم، ولا المباني الشاهقة تدفع فينا أي فرصة للتراجع عن ما نحن بصدده من التذكير بالأحداث المؤسفة التي حدثت. ليعود الناس فيها الى تلك الأيام بالغة الظلمة من ظلم الإنسان لأخيه الإنسان والتي وقعت عام 1994 في جمهورية (رواندا)، وكانت الجمعية العامة للأمم المتحدة قد حدّدت السابع من أبريل يوماً تذكارياً ينفع ولا يغني من جوع للتسامح والتعايش السلمي والمواطنة المتساوية.
و(باريس) ومدن الغرب الكبير تشهد أحداثاً عظيمة، واحتجاجات تتساوى في عنفها ورغبتها في تركيز الانتباه نحو أعمال الإبادة الجماعية التي شهدتها أفريقيا في الربع الأول من تسعينيات القرن الماضي، أغمض العالم يومها عينيه عنها وكأنها لم تحدث، ولو نظر وتأمّل أو استمع، وأخبار الموت تُداهم الفضاءات كلها والشارع الوسيع لم يعد يتحمّل الهمس، اللغات كلها تحكي عنها المآسي في ذاك الغرب الأفريقي ولم يكن سعيداً في أي من الأوقات بعدها.
أكتب علني استعيد واستعين بالمأساة لدرء الفتن، وأفهم أن ما أكتب فيه من الإشارات الموحشة مع ألم الموت الممكن، لو لم ننتبه.
قبل سنوات مشيت بين مدينة (ود مدني) والخرطوم، داعماً لبرنامج (اليونسيف) لتطعيم الأطفال، وطالبنا نحن أهل الإبداع بوقف إطلاق النار لإتاحة الفرصة لفرق التطعيم لتعمل. وقد كان،
ثم تراودني الأفكار حول صيغ الاحتجاج الممكن لإجبار الأطراف، كل الأطراف ليجلسوا لاتفاق.
ممكن، أن نحتج ونخرج في العقد السابع. نعم في القلب بعض طاقة يمكن تكريسها للاتفاق. وتذكّروا في مائة يوم فقط مات 800000، نعم ثمانمائة ألف إنسان من أجل غباء الإنسان الآخر، وفي غياب الإنسانية.
افتحوا الأبواب وادخلوا الرحمة بينكم تتّفقون إن شاء الودود.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى