محمد الطيب يكتب: أرق الكمال في العمل الفني بين بركة ساكن والطيب قرشي في نصي فيزياء اللون وعذابات الملاك الأسمر

أرق الكمال في العمل الفني بين بركة ساكن والطيب قرشي في نصي فيزياء اللون وعذابات الملاك الأسمر

* محمد الطيب

نفخ الروح في الأدب يمثل أرق الكمال لدى الأديب سواء كان شاعرا أو قاصاً أو روائيا، بل ويصبح أكثر شمولاً في الفن بإطاره الواسع سواء كان رسماً أو نحتاً أو خلافه، يظل الفنان مشغولاً بفكرة الكمال المستحيلة، ولكن يحمد السعي والمقاربة في كل حال.

في قصته “فيزياء اللون” الفائزة بجائزة العربي الكويتية وإذاعة ال BBC يناقش الروائي والقاص السوداني عبد العزيز بركة ساكن فكرة البعث، عبر  أستاذ جامعي متخصص في الرسم، يعيش يومه الأخير قبل التقاعد وهو يقرر رسم عشرة نسور بمناقير حادة، في جدارية تخلد الفن بطريقته الخاصة مستخدماً أصدافاً بحرية لصنع مناقير النسور بحثاً عن الكمال في الرسم، لتبعث الروح في تلك النسور وتلتهم عشيقة الرسام وتحلق بأجنحتها الخفاقة غازية السماء الزرقاء.

ثم يأتي القاص الشاب السوداني الطيب قرشي ليكتب نصه عذابات الملاك الأسمر في المجموعة القصصية التي تحمل ذات الاسم الصادرة عن دار نرتقي للنشر والتوزيع والفائزة بمنحة “ONE DAY FICTION” بعد عقدين من الزمان، ويناقش ذات الفكرة عبر نحات تؤرقه فكرة أن روحاً غريبة تسكن داخل جسده ويقرر التخلص منها عبر نحت طيني يجسد مخاوفه وأرقه، ثم تبعث الروح في الجسد الطيني ويحتضن النحات حتى يكاد أن يزهق روحه قبل أن يفر من النافذة ويحلق بعيداً.

يتقاطع النصان في أن العمل الفني في الحالتين قد بعثت فيه الحياة، وتمرد على صاحبه وتسبب في قتل  عشيقة أحدهم وكاد يتسبب في قتل الآخر، وإن اتفقا في فعل الإتقان الفني الذي يقارب الكمال، وهو ما يجسد أرق الفنان الأزلي في بحثه عن عمله الخالد، وهذا ما يشكل دافعاً حقيقياً، ومحفزاً أصيلاً في عملية التطور المتتابع للفنون بشتى ضروبها، فهذا الدافع المفرق في ذاتيته هو اللبنة الأساسية التي تخلق فسيفساء الفنون في تنوعها الهائل وذائقتها المتفاوتة.

“عندما عاد إلي البيت في الفجر وجد كل شيء كما هو، النسر ما يزال علي قاعدته،ينتظر في سكون، الأنوار مطفأة حيث أنّ الكهرباء قد نفدت، أخذ يتمعن نسره، لقد برع في صنعه، وهو يعرف أعماله جيدا، العظيمة المتقنة وتلك العابرة الهشة، هذا النسر عمل متقن، لولا تواضع الفنان لأطلق عليه صفة الكمال” فيزياء اللون.

وإن كان الدافع لدي الرسام في نص “فيزياء اللون” أقرب لجدارية الوداع فرسمت بإتقان المحبة وهدوء النفس مستعيناً بخبرة الأستاذ الجامعي التي راكمتها سنوات التدريس، فأتى الكمال هنا دلالة على اكتمال المشروع الفني الذي قد يعقبه الفناء فيه برضاء الفنان خلاف دافع القلق الروحي والتمرد الحارق في عذابات الملاك الأسمر الذي دفع النحات لإيجاد متنفس فني يخرج به عذابه الروحي في عملية خلق طينية كادت تودي بحياته، وإكمالها رغم إدراكه اللاواعي بخطورة ما يقوم به، ورضاءه الخفي بالفناء بحثاً عن الخلاص، وهو يجسد هنا المرحلة العمرية التي كتب فيها كل واحد نصه، ورؤيته لتجربته السردية باعتبارها في بدايتها لدى الطيب قرشي، وفي أوجها لدى بركة ساكن، فلا مناص هنا في البحث عن رؤية كل واحد منهما لمشروعه السردي عبر الإسقاط الرمزي في الجدارية والمنحوتة، وهو لعمري إسقاط يحمل قدر من الطرافة، ولكن لا يمكن تجاوزه بحال لو نظرنا إليه بعين الحياد المجرد.

“كنت في تلك الأثناء أشعر بوحش ضخم يسكنني، يجثمُ فيّ، دون أن يبرحني، ثم لا يفتأ ينبشني من الدّاخل، ويحبط محاولاتي المستميتة في الضحك، إذ كلما تأهّبَ وجهي لضحكةٍ عابرةٍ ما، بتهلُّل وانفتاح أساريره، كنتُ فورا أكفّ عن ذلك، وعوض أن أضحك، تجتاحُني نوبةُ بكاءٍ عنيدةٌ. ويبدو أنّني مع الأيام تعوّدتُها.

أن أنفجرَ باكيا، كان بمثابة أن أترك لروحي وفَاضها، أن أغسلَ كلّ ما علق بها من أثقال، وأن أكون خفيفا، كطائر تعلّم لتوّه سرّ التحليق، فأضحى يجوب الأفق، دون أن يقصد وجهة بعينها” عذابات الملاك الأسمر.

أتت نهاية النصين متفاوتة، معاقرة الفن لدى بركة ساكن كانت أقرب للتماهي والاستغراق والاتحاد مع العمل الفني،  فموت عشيقة الرسام بمناقير نسوره يعتبر نصراً للمشروع الفني، واكتمالاً له ونهاية مجيدة تستحق الاحتفاء بالموت واحتضانه.

“عندما جاءت حبيبته في ذلك الصباح وجدت الباب مغلقا كالعادة، فاستخدمت مفتاحها الخاص، سمعت جلبة غير معتادة في داخل المرسم، بل ضجيجاً، تعرف عن حبيبها الهدوء، لكنه أيضاً قد يمارس الفوضي حيث أنه كثيراً ما يقوم بتحطيم أعماله الفنية بعنف و همجية إذا لم يرض عنها و أحياناً يستخدم في ذلك فأساً ورثها عن جده، قامت بدفع باب المرسم بكل ما أوتيت من قوة.

لم يمض وقت طويل علي حضور الجيران عندما علا صراخها، بل أن البعض قد شاهد النسور الضخمة تخرج مندفعة من باب البرندة لتحلق في السماء فاردة أجنحتها الذهبية اللامعة في هواء يناير الساخن، وفي الداخل كان الهيكل العظمي الحزين يرقد مبللا بالدم الطازج”.

في حين أتت نهاية عذابات الملاك الأسمر لتناقش أن الفن قد يكون مهلكاً لكن السبيل الوحيد للتخلص من هواجس النفس وقلقها عبره، وإن كانت عملية الخلق نفسها مزيجاً من العذاب المتتابع الذي قد يفضي إلى نهايات مهلكة.

“لكنّني وبمجرد أن فراغي من انجازه، ذُهلتُ بعينيه تتحركان من محجريهما العريضين، تحدّجانني باستغراق، والشّرر يتطاير منهما، وبذراعيه العظيمين، يمتدان نحو عنقي الهزيلة، يلتفان حولها، ثم يشرعان في احتضاني للحظةٍ، شعرتُ بعدها بالاختناق، فانتفض جسدي، وصار يرفس بشدّة.. وقتها كنتُ أحاولُ التملّص منه واستعادة أنفاسي، التي أخذت تنكتم، شيئا فشيئا، لكنّني عجزتُ تماما عن التخلّص من ذلك الكائن الّذي انقضّ عليّ.

أخيرا، وبعد أن انكتمتْ أنفاسي تماما، قذف بي إلى الأرض، باردا وفارغا من كلّ شئ، ثم قفزإلى حيثُ النافذة، مهشما زجاجَها السميك، وحلق…”

* روائي سوداني

[email protected]

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى