الأمين علي حسن يكتب: الشمالية.. عناق الدوبيت والطنبور (5)

يروى أن

الأمين علي حسن

الشمالية.. عناق الدوبيت والطنبور (5)

قبل عدة قرون تشكّلت حياة البدو الكبابيش بمنطقة غرب دنقلا الحالية وشمالها وجنوبها على مسافة ليست بالبعيدة عن النيل، ولكن ثقافة البدو كانت لا تميل للزراعة وحرث الأرض بل أقرب عندهم للمذمة إلّا في الحالات الضرورية كظروف الجفاف والفقر الشديد، كما حدث مع الشاعرة الكباشية بت بحيري والتي أجبرتها سنوات الجفاف والجدب على أن تتخذ من الزراعة حرفة لها بأرض الحمر او ما يسميها الكبابيش (الصعيد)، وذات صباح وهي وابنتها تحاولان نظافة الأرض من الحشائش نظرت لابنتها قائلة:

(حشي يا قصيبة الفودي** الوطاة لساع برودي.. كان نجحت دي مقصودي** وكانت فسدت نمشي بلودي)..

وكأنها تطبق المثل البدوي القائل (دوار  جمل نسيبتو.. كان لقاه بيغني وكان ما لقاه بيغني). فهي تقول لابنتها نجتهد فإذا نجحت هذا مقصدنا وإذا فسدت أو فشلت نذهب لدار أهلنا ونتركها ولا أسفاً عليها.

تجذر هذه الثقافة في حياة الناس جعلهم يحافظون على الرعي ويبتعدون عن الزراعة رغم أنه مؤخراً حدثت بعض التغيرات. وللتوسع في المراعي والمدامر استقروا بمناطق عديدة غرب النيل مثل: (حجر دفيعي، العروبة، الشرف، تمام ود الأمين، عد حمدت الله الفريشي، وادي علي ود باهي، قعر السيالي، أبو هشيم، سريحة مرسال، شدرة محمد ود باهي،  دار الجلابة، العادي، السهريج، تناضب باهي، لدغة ساعد، الحتيتيني، شديرة الغزال، امات مراميت، جبل النائب، السداير، اللحمر، نقوة، السواني وأم هلال بالإضافة للقعبة السبعة أشهرها قعب اللقيا وقعب الباب وقعب السواني)، كل هذه المناطق كانت مقرات ومراعٍ للكبابيش منذ قرون، وكانت أشهر آبارهم في تلك المناطق بئر محمد ود جور والتي تبعد عن سوق دنقلا الحالي 7 كيلو متر غرباً وشمالها بئر الخبير حمدت الله صاحبها من الخبراء الذين عرفوا طريق الصحراء لمصر بالإبل، وغربها تقع بئر باهي بالتناضب حوالي 19 كيلو غرب دنقلا، وفي الشمال الغربي ووسط السلسلة الجبلية عرف الكبابيش بئر أم تليت وهي تعد من معالمهم التاريخية وكثيراً ما يطلقون عليها البئر الكفرانية لأنه لا أحد يحدِّد بالتحديد متى حُفرت ومن صاحبها، ولكن تعاقبت عليها الأجيال ومازالت شاهدة على تاريخ ممتد لمئات السنين، وبالجنوب منها تقبع شقيقتها أم عشوش في قلب الصحراء والتي هي الأخرى شهدت تاريخاً وأحداث وقصصاً وحكايات غطتها تلك الكثبان الرملية بجوار مراقد الأجداد الكبار هنا.

أم عشوش هذه  شهدت دوباي انقيب صغير يقف أمام إبله قبل أن ترد الماء وهدير جمل فحل لم يمنعه العطش عن الهدير، وآخر يعزف موسيقاه بنائبه وقبيل الصبح بقليل طنة حيران وحنان، وهو ذات المشهد الذي صوره لنا الشاعر جمعة ود جودة في بادية الكبابيش الغربية: (هبارة الزار فوق ميركا دون تسريح** عليها انقد واوير البروق لويح.. يومها التبقى مقروعة ومع الدعكاب حوارها يصيح** دريز التلبن سوق الشقيق من ريح)..

وهو يصف حال الإبل قبيل الصبح بقليل والأصوات التي تحدثها أشبه بصوت الشاحنات، ويرى أن الإبل حتى لو ذهبت للولايات المتحدة الأمريكية لا تحتاح لإذن أو تصريح وهذه معزة الإبل عند الكبابيش، ومن المرويات الطريفة أن أحدهم سأل الأستاذ الراحل حسن نجيلة قائلاً: (إنت ملكة بريطانيا البتقولوا شبعاني والمال كتير عندها دي.. عندها إبل؟ فكان رد الأستاذ نجيلة بأنها لا تملك ناقةً واحدةً.. ما جعل هذا البدوي يقول: يازول لاها شبعاني لا شافت الشبع). فالمال عندهم تربية الإبل فقط لا غير لأنها ترتبط عندهم بثقافة وموروث، حتى أن بعضهم يرى أن لا معنى للحياة بدون إبل، لذلك كانت ومازالت حاضرة في حياة الذين استقروا هنا غرب النيل. وكانت حياتهم عامرة  بمحاكمهم ونقارتهم، بل أنه مؤخراً أصبحت أحكام هذه المحاكم تستأنف عند محكمة الشيخ علي ود التوم بحمرة الشيخ.

ومن القصص المشهورة أن عدداً من قطاع الطرق استولوا على إبل الشيخ ود رخا من غرب دنقلا واتجهوا بها غرباً، وبعد فترة قام جماعة يتبعون لود رخا بالاستيلاء على مائة ناقة من إحدى القبائل بدارفور، ولأن الشيخ علي ينظر للأمور بعين التعايش والجوار وعلاقات الصداقة طلب من ود رخا إرجاع الإبل وأن يدفعها هو من مراحه، وبالفعل توصلا إلى حل للمشكلة. رحل هؤلاء وتركوا قصصهم تروى من جيل إلى جيل.

وصل موكب الناظر لقعب اللقيا ليجد الآلاف احتشدوا منذ الصباح الباكر ينتظرون حتى علت الشمس رؤوسهم. الناس هنا مازالت سحنة البادية تمثل صفتهم الأبرز ومهنة الرعي تجلس في مقدمة المهن والحرف، هنا تربية الابل مازالت دون منافس، ونجد أبرز الأوسام شابط العوايدة والهلال والذي ربما يكون له اسم آخر في البادية الغربية، الطريف في الأمر أن الأوسام هذه مثلت لنا مفاتيح وأسرار لفك كثير من الألغاز سوف نحكيها في الحلقة القادمة باذن الله، خاصةً وأن كل فرع من فروع قبيلة الكبابيش له وسمه الذي يضعه على إبله لكي يميزه عن الفرع الآخر.

الملاحظ أن الناس في قعب اللقيا ظلّوا يحافظون على حياة البداوة بصورها القديمة رغم أن مظاهر المدينة ظلت تتشكل في المساكن الثابتة والكهرباء وشبكة المياه وبدأت بعض المشاريع الزراعية المروية تغطي مساحات كبيرة من الأرض حتى واحة القعب القديمة التي كانت أشبه بالنبع في قلب هذه الصحراء أصبحت مزارع بلح وغيرها من الأشجار المثمرة.

الزائر لمنطقة القعب يرى في أعين المستقبلين خاصةً الكبار منهم أشواقاً وحنيناً لأخبار البادية الغربية وحياة أهلها، الأسئلة الخفية تبدو أنها تريد الإجابة عن كل التفاصيل؛ المخارف والمدامر حتى القبائل المجاورة يسألون عنها وعن أحوالها، ما يدهشني أنهم يعرفون أدق التفاصيل عن البادية الغربية رغم بعدها، ما يعني أنهم لم ينفصلوا عن واقع أهلهم وإن باعدت بينهم المسافات.

ساعات قضيناها في حضرة القعب، وكان الدوبيت أيضاً حاضراً وصفاً ومدحاً، الأمر الذي جعل الضابط الإداري لمحلية دنقلا يرتجل شعراً مادحاً كرم العرب وتدافعهم وحماستهم في حضرة ناظرهم حسن التوم حسن بصورة وجدت استحسان الحضور..

سنبقى مع منطقة القعب وأخواتها قبل أن نعبر الطريق الغربي للمحس والكبابيش هناك وتمازجهم واختلاط اللهجات في أجمل صورة..

نواصل…

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى