يحلم بحمل الموسيقى السودانية إلى مسارح العالم المضيئة .. حافظ عبد الرحمن: لا أحب الدموع، ولا أريد تساقطها من عين السودان!!

 

شجرة صندل:

وجه أسمر، كأنه منحوتاً من جذع شجرة صندل، يشع طيبة وثقة. ومنكب عريض، محشو بخليط من كبرياء، ورئتان واسعتان يبدو أن لها مهمة واحدة: نفخ الغبار عن تراث موسيقى السودان. إنه “فلوت السودان” حافظ عبد الرحمن، الذي يحلم بحمل الموسيقى السودانية إلى مسارح العالم المضيئة.

حامل الحقيبة السوداء:

في ليلة دافئة من ذات الليالي قبل عدة أعوام، امتلأت مقاعد صالة دار الشرطة في العاصمة السودانية الخرطوم. الهدوء كان مخيما فوق رؤوس كل الحضور، عنق يمتد من هنا، وآخر من هناك لرؤية حامل الحقيبة السوداء، وهو يدلف من الباب الرئيسي بنظارة أنيقة ووجه أسمر، كأنه منحوت من جذع شجرة صندل، يشع طيبة وثقة.

الصندوق الأسود:

بصوت خاشع وكثير الامتنان، ألقى تحية المساء، وشكر الحضور، قبل أن يفتح صندوقه الأسود. قلب قليلا في مزاميره قبل أن يهمس لفرقته السباعية بالمقطوعة الأولى. أغمض عينيه قبل أن يحبس أنفاسه وراح ينفخ بعاطفة واضحة على مبسم صفارته العتيقة، فغاب الزمان وتلاشى المكان ودبت قشعريرة الطرب، وروح الموسيقى في عروق الجميع، قبل أن يبادروا إلى طقطقة أصابعهم طربا، لينتظموا في صف طويل وهم (يتباشرون) رجالاً ونساءً بالقرب من رؤوس الفرقة الموسيقية.. قبيل إطفاء أنوار الحفل، وحبس سيل النغمات خلف أبواب القاعة المشرعة، كانت إجاباته حاضرة. وكان السؤال وهذا الحوار:

حقيبتك حبلى بآلات النفخ، بدت وكأنها قبعة ساحر قبل كل مقطوعة كنت تستل منها قصبة تليق بالسلم الموسيقي من أين تنبع كل هذه الأغاني؟

هذا هو سحر السودان وجماله. كان علي أن أصنع آلات ترقى إلى قدرة التعبير عن الموسيقى السودانية الغنية. كل آلة تترجم جانبا أصيلا في ثقافتنا المحلية. هذه قصبة مناسبة لأغنيات مخملية ناعمة، وتلك صنعتها على يدي لتناسب حال الأغاني ذات الإيقاع القوي. هذه ساعدتني على عزف إيقاع الجبل (جبل كردفان)، وتلك تبدو الأنسب لمحاكاة مقامات أهلنا (البقارة) الذين يقودون قطعان جمالهم وأبقارهم وهم يناجونها بأنغام كالحداء. وبهذه عزفت مقطوعة (عروس الغرب)، أيضا هناك آلات تناسب المقامات الخماسية المنتشرة والمتطورة في وسط السودان. وفي الحقيقة موسيقى السودان لا تعبر عنها آلة واحدة.

تقول إن السودانيين يترجمون شجنهم دائماً بلغة الدموع وإنك تقف ضد هذه الفكرة؟

لا أحب الدموع، ولا أريد تساقطها من عين السودان. ليتنا نكتفي بأن يكون الشجن محض شجن. هناك مساحات واسعة للشجن، وفيه جزء مقدر من الفرح، يجب استغلاله. نعم، أحيان اتقرر الدمعة ما إذا كان شجننا حزن أو فرح. لكنني لا أريد أن أعزف فيذرف المستمعون الدموع أمامي. هذا منظر لا أحبه، رغم أن صوت (الفلوت) أحياناً يثير ذكريات دامعة في دواخل الناس، قد تستدعي البكاء.

لكن من يستمع إلى موسيقاك يشعر أن ثمة تراتيل دينية تتدفق خلف بوحك المثير لشجن يتوقد منه وجد المريدين، هل تأثرت بأشعار العارف بالله (عبد الرحيم البرعي) الكردفاني؟

تربيت في بيئة متصوفة نوعاً ما، وكان والدي يحرص على أن اصطحبه إلى حلقات الذكر وتحفيظ القرآن الكريم في كردفان.. وأقول نعم في شخصيتي جانب صوفي لا أنكره.

الإنسان السوداني يعشق المدائح النبوية كيف استطعت أن تترجم فيوضاتها الروحية في حروف الموسيقى السبعة؟

هذا صعبٌ للغاية المدح يعتمد على الكلمة، وتأثير الكلمة فيه أكثر، (الزول) السوداني ينسجم مع الكلمات في خاطره وينسجم في المقابل مع الموسيقى في عمق اللحن، كون آلة “الفلوت” عميقة أعمق من الصوت، وأزعم أنني نجحت في خلق المعادلة الصعبة وأشعر أننا أثرينا الساحة بجمال معين يفسره الدعوات الكثيرة التي توجه لنا لحضور الاحتفالات الدينية لأعزف فيها مدائح يعشقها الشعب السوداني عشقا شديدا.

متى بدأت رحـلة الـتوأمة مع آلة الفلوت؟

لم أعرف شيئا عنها قبل عام 1981 كنت أعزف قبلها بالصفارة (الناي)، تعرفت عليها أثناء دراستي للموسيقى عندما أقوم بجولات فنية خارج السودان أشعر وكأنني مطالب بأن أعكس جميع الفنون السودانية، أحاول جاهداً أن أتحدث في موسيقاي عن توحيد أبناء الوطن الواحد  عن الثقافة الجميلة والغنية، وعن المفاهيم والمبادئ المشتركة التي تربط الناس.. صدقني، بعد كل حفل موسيقي في الداخل والخارج، أشعر وكأنني وحدت كل الفوارق ما بين المستمعين.

بالمناسبة، من تبنى موهبة حافظ عبد الرحمن ولمن تدين بذلك؟

لا أحب أن أظهر الآن كرجل مغرور وأرجو أن أكون صادقا عندما أقول إنه لم يدفعني أو يتبناني أحد، كما أني لم أتأثر بأحد، دعني أقول ذلك بمنتهى الصراحة.

ألا يشعرك ذلك بالمسؤولية أكثر للحفاظ على نهجك، وضمان امتداده الطبيعي عبر جيل جديد يحمل الشعلة؟

منطقيا، هذا شيء مهم جداً لكن الآن من الصعب تكرار النماذج.. البصمات لا تتكرر.. نعم لدينا جيل جديد، لكن هناك فارق في العمق.. ربما لأن زماننا كان أفضل حالاً من زمانهم، وبيئتنا أكثر خضاراً وجمالاً ومليئة بمعانٍ جميلة كنا نعيشها وليست موجودة الآن بحكم الإيقاع السريع للحياة ذاتها.. بصراحة، أنا لا أحسن هذا الدور (التبني).. لديّ الآن حلم يملأ الخاطر بالوقوف على المسرح الروماني الذي وقف عليه جورج زانفير، والمسارح التي وقف عليها سير جيمسغ الوي في النمسا وألمانيا، وأن تعزف معي فرقتي هناك.. كل ما يشغل بالي الآن أن أصل بالموسيقى السودانية إلى جميع المسارح العالمية المضيئة، أذهب وأعود في رحلات تشبه رحلات الصيف والشتاء.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى