جعفر عباس (أبو الجعافر) يكتب: بيني وبين وردي والأيام

 

مثل الملايين، أسرني العملاق محمد وردي بصوته الساحر وموسيقاه البديعة منذ سن مبكرة، ثم تعارفنا وصرنا أصدقاء، ووجدت في وردي الإنسان، قامة تضاهي قامة وردي الفنان: مثقف عضوي شديد الارتباط بقضايا الوطن، جليس لا تملُّ صحبته، ضحوك يعرف كيف يروي الطرفة، بسيط رغم كل ما نال من شهرة!!

نعم فمحمد وردي كان على الدوام إنساناً بسيطاً في تعامله مع الناس والحياة، وكما أهل الأرياف والأطراف عموماً، فقد كان وردي شديد الصراحة والشجاعة في إبداء الرأي حول المسائل المطروحة، ولحقت به شبهة الغرور لأنه كان يقول رأيه في فنون الغناء والموسيقى بلا مواربة او مجاملة، وأذكر انني كنت مستاءً لأنه قال عن النور الجيلاني في أول ظهوره بأغنية “كدراوية” أنه يصرخ كطرزان، بينما كنت وما زلت أرى أن النور مدرسة بلا سابق او مثيل، وذات يوم ذهبت إلى وردي في البيت وطلبت منه ان يستمع الى اغنية في شريط كاسيت حملته معي، وقبل ان تنتهي الأغنية صاح: دا مطرب خطير أداءً ولحناً، فقلت له ان أغنية “مرت الأيام حبيبي ونحنا ظالمنا الزمن” من ألحان وأداء طرزان، فضحك وقال: لا دا زول فنان حقيقي ومن الخير له أن يحافظ على أسلوبه في الأداء.

لم يكن وردي مغروراً، فقد كان شديد الإعجاب بإبراهيم عوض ومحمد الأمين ومحمد كرم الله ومصطفى سيد أحمد وغيرهم، ومعروف أنه عندما أراد أن يؤدي أغنية الحقيبة الوحيدة التي تغنى بها (قسم بي محيك البدري) ذهب إلى عبد العزيز داؤود، وكان يسميه مطرب المطربين ليتعلم منه كيف يؤدي أغنية الحقيبة، وجلسا يدندنان سوياً حيناً من الزمان حتى صاح فيه أبو داؤود: انت جاي عشان أعلمك واللا انت جاي تعلمني.

كان وردي يتضايق عندما يطلب منه الناس الغناء خلال جلسات الأنس، ولم يحدث قط أن جالسته وطلبت منه أن يغني، ولكنني كنت أعرف كيف استدرجه للغناء، أبدأ بالترنم: يراني أو أراهُ أقيف ذليلا قباله.. فيلتقط الطعم ويواصل إكمال أغنية حسن عطية تلك وينتقل إلى أخرى، ورغم ما حققه من مجد وشهرة بطول وعرض أفريقيا ظلت أوضاع وردي المالية في غاية التواضع، وأذكر انني زرته ذات مساء عندما كان يقيم في حي العمارات في الخرطوم، وفجأةً دخل علينا نحو ثمانية أشخاص من “البلد”، وبعد الاندماج في الأنس ناداني وردي بعيداً عنهم وقال: الجماعة ديل لازم يتعشوا عندي وكل المبلغ الذي في البيت خمسين قرشاً، فأجريت مكالمة هاتفية مع صديق وشرحت له “الوضع” فطلب مني أن التقيه في مطعم مرحبا.

وذهبت إلى هناك وانتظرته طويلاً بلا طائل، ثم استأذنت من صاحب المطعم واستخدمت الهاتف لأقول لوردي إنني فشلت في المهمة لأن الصديق خذلني، فأبلغني وردي أنه حصل على ثلاثة جنيهات من علوية زوجته، وطلب مني أن أعود لأخذ ذلك المبلغ الضخم، ووضعت سماعة الهاتف وهممت بالانصراف، فإذا بصاحب المطعم يطلب مني التريث ثم يبتعد عني لبرهة قصيرة ويعود ليقول لي: ضيوف وردي ضيوفي وعليّ بالطلاق العشاء عليّ أنا، وكان من الواضح أنه سمع “الجِرسة” خلال مكالمتي الهاتفية – المهم عبأ الرجل صينيتين بالفول والسمك والكبدة والكوارع ووضعها في بوكس وانطلقنا وعند الوصول الى البيت قلت لوردي: اشتريت الأكل دا بالدَّين وكلفني 5 جنيهات، فمد لي الجنيهات الثلاثة التي عنده، فسحبت منها جنيهاً واحداً وقلت له: في جاه الملوك نلوك، فقال لي ضاحكاً: إكّا نفيمينا (ما تنفعك).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى