الشيخ أزرق طيبة.. صَمد الجزيرة الذي رحل

تقرير- الطيب محمد خير

الشيخ الأستاذ المهندس والزعيم السياسي عبد الله بن الشيخ أحمد الريح شيخ السجادة العركية بالسودان، المشهور بأزرق طيبة, رجلٌ يلتف حوله ويريده ويُحبه البسطاء من الناس والمرموقين من عليّة القوم بمختلف درجاتهم العلمية والسياسية والتنفيذية, ويمتاز بقوة الشخصية، لا يرفض طلباً لأحدٍ, لكنه لا يفعل إلا ما يريده هو، ويضاحك مريديه وزُوّاره وأحياناً يشجيهم ويناقش معهم قضاياهم بأبوة، ويقترح لهم الحلول.

السيرة الذاتية للشيخ عبد الله الشيخ عبد الباقي بن الشيخ أحمد الريح كان مولده في نهاية العام (1946م) المشهور عند أهل السودان بعام التساب, حيث وصلت فيه مناسب فيضان النيل في ذلك العام أعلى درجاتها التي لم يشهدها السودان في الأعوام القريبة التي سبقته، بدأ الشيخ عبد الله أولى خطواته في عتبة التعليم بالخلوة التي أمضى فيها عامين ثم تحول إلى المدرسة الابتدائية بطيبة، ثم انتقل للدراسة بمدني الأميرية الوسطى وكان يعاود الذهاب للخلوة في الإجازات حتى أكمل دراسته بالمرحلة الوسطى، ثم حنتوب الثانوية، ومن أبرز زملائه فيها الأستاذ الشاعر محمد عبد الحي، في مطلع ستينيات القرن الماضي, التحق بجامعة الخرطوم كلية الهندسة، وتولى خلافة السجادة القادرية وخليفة للعركيين في العام (1990) بعد وفاة أخيه العارف بالله الشيخ أبو عاقلة.

مُساهمات

للشيخ أزرق طيبة مُساهمات كبيرة في تجديد وتحديث المنهج الصوفي التلقيدي بالتأصيل والتحديث, ويظهر ذلك من خلال تنظيم أحبابه ومُريديه في كل أنحاء السودان في المدن والأحياء والأرياف والجامعات والمصالح الحكومية من الجنسين في روابط, كلاً على حدة, وكانت له مُساهمات كبيرة في مسح الصورة الذهنية التي ترسّخت عن عمد للمتصوفة والسالكين للطرق الصوفية بأنهم مجرد سلبية ومتبطلون, وكان له اهتمام بتجديد خلوات القرآن الكريم، ومن منطلق إيمانه بضرورة نشر العلم والتعليم, أسّس مدرسة ثانوية بطيبة وأقام مجمعاً إسلامياً بمدينة كوستي, ما جعل أساتذة الجامعات وطلابها والأطباء وأهل العلم والمعرفة والسياسة يتدافعون إلى مجلسه ليستمعوا إلى نصحه.

للشيخ أزرق طيبة ذخيرة كبيرة من المواقف التي تُؤكِّد بأنه ليس مجرد شيخ طريقة روحي أو رجل دين فحسب, وإنما لديه مواقف وفي السياسة له باعٌ طويلٌ بآرائه الواضحة التي كان يظهرها في الشأن العام والسياسي, بدايةً برؤيته التي لا يخفيها لوطنه السودان بأنّه دولة مُتعدِّدة الثقافات والإثنيات والديانات, وتتأسّس هويته على مكوناته الثقافية وأبعاده الجغرافية, وكان أكثر تمسكاً وصرامةً والتزاماً في إبعاد وإلغاء كل ما هو شخصي وذاتي وخاص في سبيل سلامة الموقف الوطني العام، ويمتلك الشيخ جرأة قوية شهد بها الخصوم قبل المُريدين على قول كلمة الحق في وجه السلطان الجائر مهما كانت عواقبها عليه، ما جعل كثيرا من ذوي السلطان يتحاشونه ويهابون الدخول معه في أي مواجهة مكشوفة, وبذات القدر يترصده بالخصومة والبغضاء أصحاب الأجندات الخاصّة والمنكفئة والعُنصرية، من الأقوال المأثورة عنه وتكشف عنه نهجه في العدالة ترديده دائماً في أي محفل لمقولة (الإنسان الحر لا يقبل الظلم لنفسه ولا يرضاه لغيره)، وكان للشيخ أزرق طيبة وقفات حق مُصادمة, رفضاً للظلم والطغيان وداعمةً لخط المعارضة سجّلها له التاريخ منذ أن كان طالباً في الجامعة، من أبرزها قيادته لطلاب جامعة الخرطوم إبان ثورة أكتوبر (1964) بعد ندوة الميدان الشرقي الشهيرة, حيث اندفع طلاب جامعة الخرطوم إلى الشارع، وأصابته رصاصة في جبهته آنذاك وظل أثرها وساماً وطنياً يُزين جبينه، وفي فترة النظام الإنقاذي البائد ذلك اللقاء الذي نظّمه الرجل لقادة المعارضة في العام 2010 ووقوفه بوقوة ضد فكرة بيع مشروع الجزيرة ومُعارضته الصلبة لقانون مشروع الجزيرة الذي قُصد به تدمير المشروع, تَوطئةً لبيعه عبر عصابة الإنقاذ.

إهدار دمه

في سبتمبر من العام (2006م), قامت جماعة متشددة بإهدار دمه في قائمة الـ(23) الشهيرة التي ضمّت بجانبه قيادات من اليسار وناشطين في المجتمع المدني، ولكن أزرق طيبة لم يلق بالاً للأمر.

مُبادراته الوطنية والحزبية

طرح الشيخ عبد الله, العديد من المُبادرات وأشهرها مبادرة المشروع الوطني لبناء الثقة وتوطيد السلام والديمقراطية والوحدة الوطنية التي طرحها عام (2005) إبان مفاوضات مشاكوس أثارت كثيراً من ردود الفعل, ووجدت تأييداً واسعاً من القوى السياسية, وأعلن زعيم الحركة الشعبية د. قرنق دعمه لها، آخرها مبادرة إكمال السلام في عام (٢٠٢٠م) التي ضمنها رؤيته لإنجاح المرحلة الانتقالية وإكمال عملية السلام وإرساء دعائم الديمقراطية بالبلاد.

وعلى صعيد الحزب الاتحادي الديمقراطي, فتعود علاقة العركيين بالحزب الاتحادي إلى ما قبل الاستقلال أيام الشيخ عبد الباقي, إذ تُعتبر الطريقة الصوفية الوحيدة التي وقفت مع السيد إسماعيل الأزهري ضد الإنجليز وساندته حتى بعد انشقاقه من الميرغني، ويُعد الشيخ عبد الله أزرق طيبة أحد رموز الحزب الاتحادي وهو مرجعية فيه, ورغم مُحاولته النفي  بقوله لست من قيادات الحزب ولا عضو في أحد لجانه ولا أريد ذلك, لكنه يُبرِّر تحركاته لجمع الصف الاتحادي بقوله (موجعنا الحاصل ولدينا عملٌ كبيرٌ, لكنه مسعى إنساني وأنا مُتطوِّعٌ لجمع الصف الاتحادي).

كانت له جهودٌ وتحرُّكاتٌ واسعةٌ عبر العديد من المبادرات التي طرحها في سبيل جمع أطراف الحزب ولم الشمل وحل مشاكله لتلبية طموحات وأشواق الاتحاديين ذلك من منطلق رؤية شيخ عبد الله وإيمانه بأن الطريقة القادرية العركية تمثل عصب الحزب الاتحادي, ويُشكِّل مُريدوها (70%) من أنصار الحزب الاتحادي وقيادته, وظل يُراهن على وحدة الاتحاديين حتى رحيله, ويرى أنها يُمكن أن تكون أرضية أو نواة لتحفيز بقية القوى السياسية السودانية لجمع شتاتها الذي لعبت فيه عصابة الإنقاذ دوراً كبيراً ليخلو لها الجو لتفعل بالسودان مَا تَشاء.

يكاد يكون كافة السياسيين والإعلاميين الذين زاروا الشيخ أرزق طيبة في مسيده في فترات مُتباعدة, وجلسوا في مسيده وكتبوا عنه, يجمعون على أنه يُشكِّل تحولاً جديداً في القيادة الصوفية, فهو خريجٌ جامعيٌّ, وله اطلاعٌ على الفكر المُعاصر, وسعى لتوظيف التصوف ليكون ضد المظالم والطغيان والاستبداد, مُنحازٌ للضعفاء والبسطاء, ويتميّز بالصدق والصراحة والشفافية, وقد ظلّ شيخ عبد الله طوال سنوات حياته لا يتلقّى دعماً مالياً من الداخل ولا دولياً من أية جهة, وبذا يُقدِّم درساً لمُنظّمات المجتمع المدني عن كيفية ضخ الدم في الشرايين التي تربط الشعب السُّودانيببعضه البعض.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى