محمد محمد خير يكتب : في حق عمي التيجاني

سألني ذات مرة الأستاذ محمد خالد زوج السيدة عزة التيجاني الطيب – الكنز الثر الذي خرج به التيجاني من الحياة الدنيا، سألني: هل أنت كادر سري؟ أجبته بتساؤل آخر لماذا؟ قال لي لأن عمي التيجاني لا يضحك من قلبه كثيراً ولا يطيل الحديث عادةً إلا مع أشخاص لا تستطيع فك طلاسمهم، ومن جانبي لم أؤكد أو أنفي تساؤله.

على خلفية هذا السؤال، تتّضح الصرامة المنهجية التي طبعت ووسمت حياة المناضل الكبير الأستاذ التيجاني الطيب الذي رحل عن دنيانا مُخلِّفاً أجمل ريحة تتضوّع.

التيجاني من جيل الآمال الكبيرة ذلك الجيل الذي أرسى تقليداً عبقاً في حياتنا السياسية، تقليداً ارتبط بلونية السماحة التي ميّزت صراعاتنا السياسية بتجريدها عن العنف وفصلها بين الخلاف السياسي والروابط الاجتماعية، هو من الماركسيين الذين سودنوا الشيوعية فألبسوا كارل ماكس (مركوباً فاشرياً) وأظهروا لينين (بالعمة والجلابية) في الأندية الثقافية الاجتماعية التي كانت تُضاء (بالرتينة) .

اجتهد التيجاني كثيراً في جعل فضاء الفكرة مرتبطاً بمُحيطها، فهو المثقف الماركسي وهو في نفس الوقت ابن البلد الطيب السوداني ذو الطعم الشعبي والجذر الصوفي، ذلك هو ما أكسبه وضوحاً شفافاً وقدراً عالياً من الصفاءين الفكري والسياسي وجنبَّه طوال عطائه الذي امتد منذ عام 46 من القرن الماضي حتى رحيله في مطلع الألفية الثالثة من الحذلقة والتنطُّع واللهوجة، فقد تميّز بالدقة وكان كثير العناية بسلامة اللغة، واختط طريقاً مُميّزاً في الكتابة الصحفية جسّدته العبارة القصيرة والمعنى العميق.

رغم الزلزال السِّياسي العنيف الذي خلخل الاتحاد السوفيتي وبدّدت قوته معالم دول المنظومة الاشتراكية، إلا أنه ظلّ مُتمسكاً بأن الماركسية هي النظرية الهادية لمسيرة الأحزاب الشيوعية لما بعد البرسترويكا، فسّر كثيرون هذا الموقف بأنّه جمود وصمدية، لكنني أفسِّره بأنّه الوفاء العاطفي للتاريخ والإخلاص المُطلق للنشأة والبدايات والإصرار على حصاد بذرة لم تثمر.!

لقد رحل التيجاني الوفي للفكرة والهائم بحُب الشعب في زمن تعرّضت فيه ثوابته الملهمة للاهتزاز ومُحالاوت التحديث والمُناقشة العامة والتشكيك، لم يُقابل التيجاني هذه الهزة بالنفي، بل اعترف بها لكنه تحوّل لفقيهٍ ماركسي تخصّص في قراءة مفردات (المعجم الطبقي) الذي يُحيل ظواهر الحداثة لأصولها في الديالكتيك.!!!!

رحم الله عمي وحبيبي وصديق التيجاني فقد كان معجوناً في الشعب وكان وطنياً مرجعيته التراب.

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى