سقوط البشير.. جفوة الحلفاء وتآمر الرفقاء

الخرطوم: إنصاف العوض
اعتبر نظام الرئيس المخلوع عمر حسن أحمد البشير من أقوى الأنظمة العسكرية الشمولية المعمرة في أفريقيا كونه دام لأكثر من 30 عاماً مدعوماً بأقوى الأحزاب السياسية آنذاك نظام الإخوان المسلمين الذي تمتع في تلك الفترة بنفوذ إقليمي ودولي واسعين مما دفع للتكهنات بأن حكومات وأنظمة وربما قوى إقليمية ودولية ساعدت في الإطاحة به، ولعل أبرز هذه القراءات ما جاءت به رويترز آنذاك، إذ قرأت ملفًا ألمحت فيه إلى تدخل كل من الإمارات والسعودية والكويت بطريقة غير مباشرة في إسقاط النظام وبخاصة من خلال قطع الحبل السري الذي يغذي خزائن الخرطوم بالدولار.
عزلة شرق أوسطية
وقال التقرير إن مصادره والتي كان من بينها وزير سابق وعضو في الدائرة المقربة من البشير وأحد مدبري الانقلاب رسموا صورة لزعيم برع في التلاعب بفئات متنافسة من الإسلاميين والعسكريين في السودان، لكن عزلته كانت تتزايد في الشرق الأوسط سريع التغير.
وكشفت المصادر كيف أساء البشير إدارة العلاقة المهمة مع دولة الإمارات العربية المتحدة. فقد سبق أن ضخت الإمارات مليارات الدولارات في خزائن السودان. ووفقاً للتقرير كان البشير قد خدم مصالح الإمارات في اليمن. إلا أنه في نهاية 2018 ومع تفاقم الوضع الاقتصادي في السودان خرج المحتجون إلى الشوارع، واكتشف البشير أن هذا الصديق القوي والثري ليس بجانبه.
تخطيط استخباراتي
وروت المصادر كيف أن صلاح قوش رئيس جهاز الأمن والمخابرات اتصل بمسجونين سياسيين وجماعات معارضة سعياً للحصول على تأييده في الأسابيع التي سبقت عزل البشير.
وقالت المصادر إن قوش أجرى في الأيام التي سبقت الانقلاب مكالمة واحدة على الأقل مع مسؤولين في المخابرات الإماراتية لإخطارهم مسبقاً بالحدث المرتقب.
ولم ترد الحكومتان في الإمارات والسعودية على أسئلة تفصيلية من رويترز عن مضمون هذا التقرير.

وكتب أنور قرقاش وزير الدولة للشؤون الخارجية في الإمارات تغريدة على تويتر في يونيو بعد عزل البشير قال فيها إن بلاده على اتصال بكل أطراف المعارضة السودانية وبالمجلس العسكري الانتقالي آنذاك.
وفي إشارة إلى حلفاء البشير من التيار الإسلامي في السودان، أضاف قرقاش أنه ما من شك أن هذه فترة حساسة بعد سنوات من ديكتاتورية البشير والإخوان المسلمين.
جفوة وتجاهل
وكانت العلاقات لا تزال دافئة بين البشير والإمارات، ففي فبراير 2017 عندما زار البشير ولي عهد الإمارات الشيخ محمد بن زايد في أبوظبي. كان حوالي 14 ألف جندي سوداني يقاتلون متمردين متحالفين مع إيران في اليمن تحت راية تحالف عسكري بقيادة السعودية والإمارات.
وقال مصدر رفيع في الحكومة السودانية أطلعه البشير على ما دار في اللقاء بينهما إن ولي العهد كان يأمل تعاون البشير الآن في موضوع آخر يتمثل في التضييق على الإسلاميين.
وكانت الإمارات تقود مساعي إقليمية للتصدي للإسلام السياسي الذي تعتبره هي والسعودية تهديداً مباشرًا للحكم وللمنطقة.
واكتسبت تلك المساعي أهمية أكبر اعتباراً من العام 2011 عندما اجتاحت انتفاضات الربيع العربي الشرق الأوسط. فقد كانت جماعة الإخوان المسلمين تزداد قوة. وتعتبر الإمارات والسعودية الإخوان المسلمين تنظيماً إرهابياً. وتقول الجماعة إنها سلمية.
نفوذ إسلامي
في السودان كان نفوذ التيار الإسلامي أكثر رسوخاً منه في مصر ويمتد لعشرات السنين. فقد استولى البشير على السلطة في 1989 وأصبح رئيساً لمجلس عسكري من الإسلاميين. وأصبح الإسلاميون يسيطرون على المؤسسة العسكرية وأجهزة المخابرات والوزارات الرئيسية.
ويقول المسؤول الحكومي الكبير، إن البشير والشيخ محمد بن زايد توصلا إلى “تفاهم” يقضي بأن يتخلص البشير من الإسلاميين مقابل دعم مالي تقدمه الإمارات. ولم يذكر البشير كيف ينوي تحقيق ذلك.

وفي تصريحات أذيعت تلفزيونياً خلال اللقاء وجّه الشيخ محمد بن زايد الشكر للبشير على إرسال قواته لدعم الإمارات والسعودية في اليمن.
تدفقات دولارية
تدفقت مليارات الدولارات من الإمارات على السودان بعد محادثات أبوظبي. وذكرت وكالة أنباء الإمارات أن الإمارات حولت للسودان في السنة المنتهية في مارس 2018 ما قيمته 7.6 مليار دولار في صورة دعم للبنك المركزي السوداني واستثمارات خاصة واستثمارات عبر صندوق أبوظبي للتنمية.
وتم تكليف واحد من أوثق مساعدي البشير وهو مدير مكتبه طه عثمان الحسين بتولي أمر علاقات السودان مع الإمارات والسعودية. ويقول زملاء للحسين ضابط المخابرات السابق، إنه طموح ومحنك. غير أن نفوذه أثار استياء وزراء في الحكومة اشتكوا من عجزهم عن الاتصال بالبشير إلا عبر الحسين وإنه يتحكم فعليًا في السياسة الخارجية.
واتهم الخصوم بمن فيهم رئيس المخابرات حينذاك وساسة كبار الحسين علناً بالتجسس لحساب السعودية. وقالت المخابرات السودانية إن السعودية والإمارات أودعتا 109 ملايين دولار في حساب مصرفي للحسين في دبي.
وقالت عدة مصادر لرويترز إن الحسين نفى تلك الاتهامات التي ذكرتها وسائل الإعلام السودانية في ذلك الوقت في لقاءات مع البشير.
وقال المسؤول الحكومي السابق إن البشير عزل في النهاية الحسين في يونيو 2017 عندما اتضح أنه حصل على الجنسية السعودية. وانتقل الحسين إلى الرياض وأصبح مستشاراً للسعودية والإمارت وكان عزله لطمة للإمارات.
صداقة مفخخة
في صيف 2017 تفجرت أزمة دبلوماسية بين دول الخليج، فقد قطعت الإمارات والسعودية العلاقات مع قطر لاستيائها من دعمها المتواصل لجماعة الإخوان المسلمين. ووضع هذا الخلاف البشير في وضع صعب. فقد سبق أن قدمت قطر مثل الإمارات دعمًا مالياً بمليارات الدولارات للاقتصاد السوداني.
وضغط حلفاء البشير الإسلاميون في السودان عليه للحفاظ على العلاقات مع قطر وعدم الانحياز لطرف من طرفي في النزاع. وقال المسؤول الحكومي السابق إن رسالتهم كانت في غاية الوضوح خلاصتها “يجب أن نحافظ على العلاقات مع قطر”.
وفي مارس 2018 أعلن السودان وقطر خططًا لإبرام اتفاق لتطوير ميناء سواكن السوداني على البحر الأحمر باستثمارات قدرها أربعة مليارات دولار.
كان البشير قد اختار ألا يلقي بثقله وراء الإمارات والسعودية في النزاع.
واختار البشير أيضًا ألا يقلص نفوذ الإسلاميين في حكومته. وقال المسؤول الحكومي الكبير إن البشير كان يخشى استعداء شخصيات إسلامية لها نفوذ كبير.
ومن أصحاب النفوذ هؤلاء علي عثمان محمد طه النائب السابق للرئيس وبكري حسن صالح الذي خلفه في منصب نائب الرئيس والذي شارك في الانقلاب الذي أتى بالبشير.
انزلاق اقتصادي
وبحلول أكتوبر 2018 كان السودان ينزلق إلى أزمة اقتصادية، إذ قلّ الخبز والوقود والعملة الصعبة. وفي اجتماع لحزب المؤتمر الوطني المحلول قال البشير في رد على تساؤل عن تأخر الدعم الإمارتي السعودي قال البشير إخواننا يريدونني أن أتخلص منكم يا إسلاميين.
وقال ثلاثة مسؤولين سودانيين إن الإمارات أوقفت في ديسمبر 2018 إمدادات الوقود للسودان لاستيائها من عدم تنفيذ البشير لالتزاماته في الاتفاق الخاص بالتخلص من الإسلاميين لكنها لم تقبل رفض السودان التحيز لطرف بعينه.
وفي فبراير 2019 بدا وكأن البشير يخطو نحو مصيره المحتوم في اجتماع مع مجلس شورى حزبه المؤلف من كبار القيادات في البلاد. وكانت الاحتجاجات تنتشر في البلاد على ارتفاع أسعار الخبز. وأعلن البشير انتماءه للحركة الإسلامية وافتخاره بذلك.
وقال المسؤول الحكومي الكبير، إن هذه كانت نقطة اللاعودة. كان من الواضح أن البشير لن ينقلب على الإسلاميين.
ومع اشتداد الحاجة للمال سافر البشير إلى قطر في وقت لاحق من ذلك الشهر لإجراء محادثات مع أميرها الشيخ تميم بن حمد آل ثاني. ويقول عضو الدائرة المقربة من البشير إن الأمير عرض على البشير مليار دولار.
لكن المصدر قال إن البشير عاد للبلاد خاوي الوفاض بعد أن كشف الأمير أنه يتعرض لضغوط من “دوائر معينة” لتغيير رأيه. ولم يحدد الأمير تلك الأطراف..
تآمر وخيانة
وخلف الكواليس كانت مؤامرة عزل البشير تتبلور. فقد روى أحد قيادات المعارضة ممن كان ضمن السجناء السياسيين في سجن كوبر المحبوس فيه البشير الآن في الخرطوم كيف ظهر رئيس المخابرات قوش فجأة في السجن في أوائل شهر يناير 2019 والتقى بثمانية من شخصيات المعارضة.
وأبلغ قوش السجناء أنه جاء من أبوظبي بوعد من الإمارات لتقديم الوقود ومساعدات اقتصادية أخرى.
وطلب من السجناء تأييد خطة عامة من أجل نظام سياسي جديد في السودان. وأكد مصدر وثيق الصلة بقوش هذا الحوار.
وعاد قوش إلى السجن بعد عشرة أيام. وفي تلك المرة زار 26 زنزانة يشغلها سجناء سياسيون.
وقال القيادي المعارض الذي أطلق سراحه الآن هو والآخرون “منذ ذلك الوقت تحسنت الأحوال. وحصل السجناء على سجائر مجانية وعلى جهاز تلفزيون وتبغ، وأضاف “وجدنا الأمر في غاية الغرابة أن يزور رئيس المخابرات السجناء السياسيين. لكن عندما وقع الانقلاب أدركت السبب.
مخرج رئاسي
ويقول دبلوماسي غربي كبير في الخرطوم وعضو الدائرة المقربة من البشير والمصدر وثيق الصلة بقوش إن الإمارات وقوش اقترحا في منتصف فبراير مخرجاً كريمًا للرئيس. وكانت تلك الخطة تقضي بأن يظل البشير في السلطة لفترة انتقالية تعقبها انتخابات.
وأعلن قوش في مؤتمر صحفي في 22 فبراير أن البشير سيتنحى عن رئاسة حزب المؤتمر الوطني ولن يسعى لإعادة انتخابه في 2020. إلا أن البشير لم يذكر شيئاً في خطاب بثه التلفزيون بعد ذلك بقليل عن الاستقالة من رئاسة الحزب وقال لأعضاء الحزب في اليوم نفسه إن قوش بالغ في الأمر.
وبدأت الخطوات المناهضة للبشير تتسارع.
وقال أحد قادة المتمردين ومصدر لعب دوراً كوسيط بين الجانبين إن الإمارات أجرت اتصالات بأحزاب المعارضة السودانية والجماعات المتمردة التي شنت حرباً على البشير وذلك لبحث “الوضع السياسي في السودان بعد البشير”.
وعندما نظم المحتجون اعتصاماً خارج وزارة الدفاع على مسافة غير بعيدة عن مقر البشير في السادس من أبريل لم يفعل جهاز الأمن والمخابرات بقيادة قوش شيئًا لمنعهم.
وكان ممن حضروا تلك المحادثات أحمد تقد المسؤول الكبير بحركة العدالة والمساواة المتمردة في دارفور. وقال إن مسؤولي الإمارات كانوا يريدون سماع آرائهم في المصالحة والاستقرار. وأضاف تقد “ركزنا على عملية السلام وعلى كيفية تسوية الصراع في مناطق الحرب”.
وقال تقد والمصدر الذي تولى ترتيب الاتصال إن الشيخ منصور بن زايد آل نهيان مالك نادي مانشستر سيتي وأحد أفراد الأسرة الحاكمة في أبوظبي أشرف على الاتصالات بين الإمارات وجماعات المعارضة..
عصا غربية
وقال موقع هاارست الإسرائيلى إنه بالرغم من تعاون نظام البشير مع معظم القوى الدولية وتشكيله دعامة ثابتة لمصلحتهم فى شمال افريقيا إلا أن ذلك لم يجعله فى مأمن من كيدهم إذ تشابهت علاقته بأمريكا بقطار الجبال كما خشي الغرب من تحول السودان إلى إيران أخرى فجاءت العقوبات والمقاطعة متتالية.
شكوك وعداء
وأضاف: حتى مصر في المقابل، تعاملت مع البشير بشك وحتى بعداء: الرئيس السوداني أيد أثيوبيا في النقاش حول تقسيم مياه النيل واتهم مصر بسرقة حصة السودان من المياه. وبموازاة ذلك كان الصراع على السيطرة في مثلث حلايب الذي يقع على الحدود بين مصر والسودان، كان عاملاً ثابتاً للمواجهة بين الدولتين. الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الذي شن حرباً شديدة ضد الإخوان المسلمين عند توليه الحكم في 2013، كان له صراع أيديولوجي أيضاً مع البشير الذي يعتمد على الإخوان المسلمين في دولته. حسب ادعاء مصر، هو أعطى ملجأ لنشطاء الحركة الذين هربوا من مصر.
رغم هذه الخلافات فإن التحالف مع السعودية أجبر مصر على التعامل مع البشير كحليف.
ساحة خلفية
ولوح التقرير إلى أن إسرائيل التي لم تكن تربطها علاقة واضحة المعالم بنظام البشير تعاملت في نقل اليهود الإوربيين إلى القدس إلا أنها عملت كساحة خلفية لأنشطة المعارضة الرامية لإسقاط النظام، وقال: بالرغم من أن إسرائيل هي لاعبة ثانوية في الساحة السودانية، إلا أن مصادر أجنبية قالت إنه إلى جانب هجماتها ضد قوافل السلاح التي جاءت من إيران إلى غزة عبر السودان، هي أيضًا أقامت علاقة وثيقة مع منظمات سودانية، منها حركة تحرير السودان وحتى نظام البشيرـ عندما أرادت المساعدة في إحضار يهود إوروبا الى اسرائيل.
وفي السابق، وردت تقارير تقول إن مبعوثاً من إسرائيل أجرى اتصالات مع نظام البشير لفحص إمكانية إنشاء علاقات مع إسرائيل. المتحدث بلسان حزب البشير، د. إبراهيم الصديق، نفى ذلك.
كما كشف موقع مديل ايست آي عن لقاء جمع بين رئيس الموساد يوسي كوهين في ميونيخ مع رئيس المخابرات صلاح قوش وبحث معه إمكانية تغيير النظام في السودان.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى