محمد عثمان إبراهيم يكتب.. ملفات طارئة على طاولة المنصورة

ستبدأ الوزيرة الجديدة في التعرّف على الوزارة وأقسامها ودهاليزها وأضابيرها، ولن تجد سوى خنادق الجماعات المتحاربة وآثار الدكتور منصور خالد الذي تحفظ له ذاكرة الدبلوماسيين السودانيين من معاصريه واللاحقين، أنه كان الأكثر جرأة في تطبيق إصلاحات إدارية وسياسية غير مسبوقة، وأنه كان الأكثر إبداعاً في صياغة كتاب الدبلوماسية السودانية على أساس من المعارف، والثقافة، والفكر، والمصالح.

مضى وقت طويل منذ أن غادر الدبلوماسي الأكثر شهرة عتبات الوزارة وخلفه رتل من الوزراء لكنهم لم يكونوا – مع كامل التوقير لهم – بذات القدر من الإبداع والثقة بالذات، حتى الشيخ الترابي والأستاذ علي عثمان اللذين توليا رئاسة الدبلوماسية وخلفهما ماكينة ضخمة من التأييد والمساندة كانا أكثر انغماساً في السياسة وأقل اكتراثاً بالدبلوماسية.

طوال سنوات الإنقاذ اشتهرت الوزارة برواتب العاملين بها بالعملات الأجنبية أكثر من أي شيء آخر حتى بلغ الأمر أن وصلت المعايرة بالتسابق على تلك الرواتب إلى صفحات الصحف. هذه الرواتب العالية مقارنة بوظائف الحكومة الأخرى مقرونة بالعمل القليل وفرص التأهيل والتجارب والحصول على الإقامة في بلدان العالم الأول، أضعفت من مساهمة الدبلوماسيين في الشأن العام وفي شأن وزارتهم نفسه – رغم الكفاءة المشهودة للكثيرين منهم- محدودة وضعيفة وباهتة.

كتب السفير السابق حاج ماجد سوار مذكرة ينتقد فيها منشطاً محدداً فُطرد من الوزارة كلها، وقدم السفير رحمة الله عثمان رأياً لم يرُق لرؤسائه فاستُدعي على الفور من أضواء نيويورك الساطعة، ثم حملت الوزارة اسمه تجول به على المنظمات لعلها تظفر له بمكان يخرجه من العتمة، وقد كان.

هذا الرعب مضافاً إلى الكتائب الحربية التي أشرنا إليها في الجزء الأول جعل الدبلوماسي هو الشخص الأكثر ميلاً للصمت والتحفظ، والأكثر ميلاً للتواري مهما كان موضوع الحديث خشية أن يُنقل كلامه أو يُفسَّر خطأ فيدفع الثمن حرماناً من النقل إلى إحدى المحطات الغربية وتنتهي خدمته وهو يتجول بين العواصم الأفريقية غير المرغوبة (للأسف الشديد).

ادخل أي منتدى للحوار وستجد الدبلوماسي هو الأكثر رعباً من إبداء صفحة نفسه، وهكذا لم يخسر السودان خبرات أكاديمية وعلمية باهرة فحسب، وإنما خسر رجالاً أماجد ونساء ماجدات كان يمكن لمساهماتهم بالرأي والجدل والنقد والحوار أن تسهم في نقل تجارب العالم من حولنا إلينا دون أن نبرح وطننا.

ينتظر الدبلوماسي التقاعد ليكتب آراءه التي أعجزه الرعب عن قولها سراً وجهراً حتى إذا واتته الشجاعة لكتابة مذكراته تصدى له أحد جلاوزة الكتائب الحربية فعايره بالجبن والخور وكتم الشهادة حين كانت أجريته من دنانير السلطان موصولة.

إن مهمة الوزيرة الجديدة بالتنسيق مع أجهزة الدولة الأخرى هي أن تجعل العمل الدبلوماسي أقل جاذبية وأكثر إنسانية واحتراماً للعقول المميزة التي تقوم عليه.

وفي هذا السياق، نشير إلى تصريحات أدلى بها مؤخراً وزير الخارجية الأسبق والدبلوماسي المخضرم إبراهيم طه أيوب محذراً الحكومة من تحويل الوزارة – وفق تعبيرنا- إلى منتجع للتقاعد المريح على حساب الفقراء في السودان، حيث قال للصحفية المميزة والمهتمة بشؤون وزارة الخارجية والعمل الدبلوماسي سوسن محجوب “إن بعض الوزراء في الحكومة السابقة سيسعون إلى تعيينهم سفراء في بعض السفارات المهمة”، وحذر من ذلك بشدة (صحيفة السوداني 11 فبراير 2021م). هذا الحديث إن صح فإنه يُعبّر عن طموح معيب ورغبة لا تليق بالكبار.

لا بأس بأن نُعيد بأن من الضروري إعادة النظر في جاذبية العمل الدبلوماسي كمكسب شخصي، ويمكن لتحقيق هذا الهدف النظر في مقترحات عملية بتقليل فترات الابتعاث، وتسريع حركته، ومعالجة الفوارق في الرواتب والاستحقاقات بين العواصم، وتنشيط حركة الانتداب الداخلي بين الخارجية ومؤسسات الدولة الأخرى، بما فيها الأكاديمية، نقلاً للخبرات والمعارف وتوطيناً وإزهاراً وإثماراً لها في حقولنا. لماذا لا يُقدّم دبلوماسيونا العائدون من العمل في الأمم المتحدة والمنظمات القارية والإقليمية ومختلف الدول دورات وورش عمل ومحاضرات لطلاب الجامعات ينقلون فيها تجاربهم هناك؟ أي جامعة أقامت ورشة للعدالة الانتقالية أشرف عليها دبلوماسيون عملوا في جنوب أفريقيا أو رواندا أو المغرب أو أندونيسيا أو غيرها؟ يا للمعارف المُهدَرة!

بمثل هذه المبادرات والتفاعُل مع المجتمع يبدأ طريق التحوّل من دبلوماسية الغنيمة إلى دبلوماسية الخدمة الوطنية، حيث يمتد إشراق المؤسسة المهيبة إلى داخل بلادنا.

***

كتابُنا الدبلوماسي يخلو من التقاليد إلا لبس الجلباب والعباءة العربية والعمامة بالنسبة للسفراء عند تقديم أوراق اعتمادهم، وتقديم الكركدي في مقرات السفارات، أما غير ذلك فلا توجد ثوابت. كلما جاء وزير جديد للخارجية يتخيل أنه مركز العالم ويحاول البداية من الصفر.

لا يوجد موقف ثابت من السلام العالمي ومن النزاعات المزمنة ومن القضايا الدولية ذات الأهمية والتي ينبغي لكل مواطن عالمي (Global Citizen) أن يبدي رأيه فيها مثل قضايا الهجرة واللجوء، وتبعات الحروب، والجريمة المنظمة، وانتشار الأسلحة، والهيمنة الأجنبية، والاستعمار الجديد، وإصلاح الأمم المتحدة، وإعادة تعريف الإرهاب، ومعاداة المسلمين، وصدام الحضارات، والرق الجديد، والتجارة والاتصال في عصر الإنترنت، والعدالة الدولية، والتدخل المتجاوز لسيادة الدول لأسباب إنسانية، وهذان ملفان شديدا الحساسية بالنسبة لمستقبل إقامتنا كدولة في بيت العالم، وحماية البيئة، وعالم ما بعد “الكورونا” حيث باتت الحاجة إلى استراتيجيات دولية لحماية النوع الإنساني على كوكب الأرض أكثر أهمية وإلحاحاً.

هذه وغيرها، قضايا تستحق أن تُعقد من أجلها المناقشات بحيث يكون للخارجية كتاب منير في كل قضية تحتكم إليه ولا تحيد عنه، ولا يكون في ذات الوقت معيقاً للبلاد من التفاعل الخلاق والتنسيق مع دول العالم حول ما يستجد من قضايا وأزمات، وما يبدعه العقل البشري من مبادرات لإصلاح حياة الناس على الأرض.

إن الحاجة إلى رفع القدرات التقنية للوزارة من معارف ووسائل اتصالات حديثة تربط جميع البعثات برئاستها في الخرطوم ضروري جداً في مرحلة ما بعد “الكورونا”، حيث صارت المؤتمرات تُعقد دون أن يُغادر المرء غرفة مكتبه. حان الوقت لأن يتحوّل مقر الوزارة إلى خلية عمل حديثة وليس إلى وكالة سفر تستهدف ملاحقة المؤتمرات والمحافل التي تُعقد في الخارج اصطياداً للمتعة والنثريات. إن تكاليف رحلة واحدة لوفد مثل وفد السودان الذي سافَر لحضور قمة الأرض في جنيف قبل أعوام أو وفد السودان الذي سافر لتهنئة الرئيس المكسيكي بانتخابه وحضور مراسم أدائه للقسم قادرة على إنشاء غرفة رفيعة المستوى للمؤتمرات الأثيرية في مبنى الوزارة.

***

تحتاج الوزارة العتيقة إلى مشروع جديد للنهوض بالعمل الدبلوماسي ليكون ساعداً للاستقرار والأمن والاقتصاد والاستثمار، بحيث يستوعب جميع آليات قوّتنا وفي هذا، فإن إعادة تشكيل هياكل وشُعَب الوزارة لتستوعب المفاهيم والنظريات الجديدة للعمل الدبلوماسي.

حين أنجز الراحل منصور خالد مشروع تثوير مؤسسة الدبلوماسية السودانية، لم تكن مفاهيم الدبلوماسية العامة والقوة الناعمة وغيرها مما يقول به الخبراء، ونحن هنا نغرف مما كتبوا دون مزاعم بإنتاج فيها. نلعب دورنا ككُتّاب مهمتهم التنوير والتبصير والبحث ونقل المعارف بكل تواضع وطيبة خاطر ودون ادعاءات.

نحتاج بشكل ضروري إلى إعادة تأسيس هياكل الوزارة لتكون حاملة لأهداف جديدة.

لولا أن الكلام يُعاد لنفد، وفي هذا الصدد ربما كان من الضروري أن نُعيد تقديم بعض الأفكار التي سبق لنا الجهر بها في مناسبات فربما تهيأت لها لحظة استجابة.

تحتاج وزارة الخارجية للاقتراب أكثر من التجارة الخارجية والاستثمار ليس في الخارج والعاصمة فقط، وإنما على امتداد البلاد. نريد مكتباً لوزارة الخارجية في عواصم الولايات يستقبل المستثمرين الأجانب ويشارك في حضور اجتماعاتهم مع السلطات الولائية، ونريده مكتباً يقي المواطنين في الولايات من السفر إلى الخرطوم لأجل توثيق شهادة تلك التي يغادر من أجل وضع ختم الوزارة السامي عليها آلاف الناس من الأقاليم فيخسرون آلاف الجنيهات مقابل خدمة كان ينبغي أن توفرها لهم الدولة في أماكنهم.

نريد وزيراً جديداً للخارجية يدرك أن وزارته هي آلية لصناعة وبلورة وتنفيذ السياسة الخارجية للبلاد مع أجهزة الدولة الأخرى لا احتكارها، ويعلم أن التخطيط للعلاقات الدولية للبلاد ينبغي أن تشارك فيه قطاعات واسعة من الدولة عبر الآليات الرسمية وغير الرسمية المساعدة، ونريد وزيراً رأى الخارج لا وزيراً يحمل جواز سفره في جيبه وهو يخطط لأن يبقى طول العام خارج الوطن.

نريد وزيراً نقياً من الغبائن وجرثومة صراعات الوزارة وحروبها الداخلية، نريده نقياً ليس في عنقه بيعة لأمير في جماعة سرية أو مندوب لحزب علني. نريد وزارة تعنى بجذب الاستثمار والحرص على أن تكون منشئات السفارات واجهات لجذب المستثمرين، وتقديم الأفكار لهم وفقاً للخارطة الاستثمارية للبلاد لا مكاتب لمنح التأشيرات وتحصيل الرسوم. نريد وزيرة حين تزور السفارات ترى تلك المستأجرة بمبلغ يفوق ما تستحق من قيمة، وحين تزور العقارات المملوكة للسفارات، تراجع عقود شرائها وتعرف هل دفع الشعب السوداني ثمنها المستحق أم أنه انخدع! نريد وزيرة تمثل مصالح الشعب، لا نقابية تهتف دفاعاً عن الامتيازات.

نريد سفارات نظيفة مثل سفارتنا في أبوظبي والدوحة لا سفارات قذرة مثل سفارة السودان في القاهرة أو كوالالمبور.

***

وقبل أن نختتم نود الإشارة إلى قرار فاجع بإغلاق عدد من السفارات ضمن إجراءات التقشف وضبط النفقات وأشارت الأنباء إلى أن القرار شمل عدداً من السفارات في أفريقيا إضافة إلى سفارة السودان في تايلاند. هذا قرار غير موفق ولم يراع النفقات وإنما اهتم بخدمة المطالب النقابية للدبلوماسيين الذين عادة لا يرغبون في العمل في تلك السفارات. كم تكلف سفارة السودان في بانكوك أو ياوندي مقارنة بما تكلفه بعثة السودان في الأمم المتحدة أو سفارة السودان في واشنطن أو لندن أو باريس أو دبلن؟

وبعد، كل الأمنيات الطيبة للسيدة الوزيرة الجديدة أن تكون رئيسة للدبلوماسية الوطنية السودانية وليس زعيمة لنقابة للمسافرين ومطمعاً لمحبي المغانم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى