محمد فقيري يكتب :  دوّامة التُوهان بين تعاليم الإسلام وسلوك المسلمين الإلتصاق الصفيق والبُعد السحيق السودان نموذجا (15)

نأتي إلي العلمانية وخطأ مفهومها عند الغاليبة ، فهي عند البعض كفر صريح، وعند البعض فكر إلحادي، وعند البعض نبت شيطاني غريب، وعند البعض طريق للإنحلال والتفسخ، وعند البعض الآخر هي جميع ما ذكرنا ، مضافاً إليهالشيوعية واللبرالية والماسونية ، فالعلمانية هي أسوء ما توصل إليه الإنسان، وهي جامعة لكل فكر شيطاني منذ فجر التاريخ، هكذا يتم تخيير الناس بين العلمانية والإسلام كأنهما طرفا نقيض، فالمسلم لا يكون علمانياً، والعلماني لا يمكن أن يكون مسلماً، هذا، رغم أن العلمانية ليست عقيدة، وليست إيدلوجيا، ولا يكون الفرد علمانياً، كأن يُقال أن فلان (علماني والعياذ بالله)، إنما هناك من يؤيد أن تكون الدولة علمانية، فيبقى الفرد من دعاة العلمانية، ولا يستعمل تعريف علماني مقابل مسلم أو مسيحي أو بوذي أو… إلخ،  وإذا كان للمقيمين في دولنا أعذارهم في هذا الفهم الخاطئ، فما يعجب له المرء أشد العجب، هو أن بعض المقيمين من المسلمين في الدول العلمانية، يرفضونها ، ويعتبرونها ضد الدين ومحاربة له، رغم أن العلمانية هي التي مكنتهم من الهجرة إليها، ومكنتهم من البقاء في أراضيها كمواطنين، ورغم أنهم يتمسكون بدينهم ويمارسون شعائرهم بأحسن مما كانوا يمارسونها في بلادهم، ويتزوجون ويطلقون ويربون أبنائهم على الطريقة الإسلامية، ويذهبون إلي الحج والعمرة ويعودون، ويصومون رمضان ويصلون التراويح ويقيمون الليل في المساجد، ويتحرون ليلة القدر، وينحرون الأضحية، ويحتفلون بالأعياد بإقامة الصلاة في الصالات والساحات العامة، ويخرجون بكامل ملابسهم الإسلامية، وينعمون بكامل السلام والحرية في إنشاء المساجد ودور العبادة كغيرهم من أصحاب العقائد الأخرى تماماً، بل أن منهم من لم يكن ملتزماً بالدبن في بلاده وهداه الله في بلاد الكفر والعلمانية.  عندما أسمع كلمة علماني يتبادر إلي ذهني سؤال، وهو، هل أصبح من يعيش في الدول العلمانية علمانياً؟، هل الواحد منهم ترك دينه وأصبح علماني المعتقد؟، وهل يستطيع أصلاً أن يَعتنق العلمانية؟ ، وهل العلمانية تُعتنق؟، بالطبع لا، ذلك أن العلمانية نظام حُكم يتأسس على فصل الدين عن الدولة أو السياسة، وتؤسِس دستوروضعي يساوي الناس جميعاً بما هم مواطنون، وإذا كنتَ مسلماً تعيش في بلد علماني ويعيش معك المسيحي والبوذي واليهودي واللاديني، فما يجمعكم ليس العلمانية، إنما تجمعكم المواطنة، فأنت مواطن أولاً، وبعد ذلك أنت مسلم ، وذاك يهودي، والثالث بوذي ، والرابع لا ديني ، والخامس ربوبي …. إلي الآخر، وتأتي العلمانية لتساوي بينكم كبشر، تساويكم جميعاًتحت الدستور في الحقوق والواجبات، تخضعكم جميعاً لقانون واحد.

كل دول العالم الحر تُحكم بالديمقراطية، وهي بذلك بالضرورة علمانية، إذ لا تقوم الديمقراطية الصحيحة إلاّ إذا كانت الدولة علمانية، يقوم دستورها على المواطنة، وبينما الديمقراطية تستلزم العلمانية إلاّ أنه من الممكن أن يكون النظام الحاكم علمانياً ديكتاتورياً مستبداً، فالديمقراطية تستلزم العلمانية بينما العلمانية لا تستلزم الديمقراطية، والديمقراطية تختلف طريقة ممارستها من دولة لأخرى، فالنظام الديمقراطي الأمريكي مثلاً ليس هو نفس النظام الديمقراطي في المملكة المتحدة، إذ يختلفان جملة وتفصيلاً، وكذلك علمانية أمريكا تختلف عن علمانية المملكة المتحدة، وبينما لأمريكا دستور تفصيلي مكتوب، فدستور المملكة المتحدة ليس مكتوباً أصلاً، فهو عرفي، يلتزم به الجميع دون أن يكون مكتوباً، وتختلف علمانية فرنسا عن علمانية الدولتين سابقتا الذكر، فالعلمانية شأنها شأن الديمقراطية، ليست شيئاً واحداً، منها نسخ تختلف كثيراً أو قليلاً من دولة لأخرى، إذ تقومان ــ الديمقراطية والعلمانية ــ  على الظروف الإجتماعية والثقافية والإقتصادية والتاريخية الخاصة بالدولة المعينة، ولذلك تختلف دساتير الدول العلمانية من ناحية الصياغة من دولة لأخرى، ولكن رغم ذلك فتطبيق قانون واحد يساوي الناس جميعاًمُشترك، دول كثيرة تشير دساتيرها إلي الديانة الرسمية للدولة، وربما تم تحديد أن يكون رأس الدولة من ديانة معينة، وربما من مذهب معين في الديانة، ولكن تبقى هذه الإشارات رمزية لا تأثير لها في الواقع، وقد جاء ذكرها في الدساتير كواحدة من الرمزيات التي وضعت لإرضاء الكنيسة حين تم إبعاد الكنيسة ورجالها من السياسة وشئون الحكم، ورأس الدولة أو الملك في الدول العلمانية التي تحكم بالديمقراطية البرلمانية منصبه تشريفي  ولا يتدخل في السياسة وشئون الحكم ، وليعجب المرء ، مرة أخرى ، أن المسلمين يعيشون في هذه الدول ويشاهدون الممارسة الفعلية للعلمانية ، ويتمتعون بوقوف الدولة على مسافة واحدة من المعتقدات، ثم يجادلون بأن الدولة ليست علمانية لأن الدستور يشير إلي ديانة الدولة الرسمية، أو لأن الرئيس الأمريكي ترامب رفع الإنجيل يوماً، وهذا يعني أن الدولة دينية، هذه النتيجية التي توصل إليها البعض إما أنها غفلة، أو أنها مغالطة، فترامب في رفعه للإنجيل ليس إلاّ مثل جماعات الإسلام السياسي في رفعهم لشعارات الدين، ولا يخفى على أحد أنه رفع الإنجيل لغرض إنتخابي في نفس يعقوب، فمثلما لجماعات الإسلام السياسي مغيّبون يؤيدونهم، فلترامب مغيّبون يؤيدونه، ولا يستطيع ترامب ولا غيره أن يمس الدستور الذي يفصل بين الدين والدولة ولورفع الإنجيل كل يوم عشر مرات، كل اللغط الذي يدور هذه الأيام عن العلمانية وتعريفاتها ووصف الدول العلمانية بأنها ليست كذلك، لأن دساتيرها تشير إلي دياناتها، تزييف للوعي، وتجهيل للناس، وكلمة باطلة أريدَ بها باطل، فالعبرة بالواقع الممارس، الذي يتمتع به المسلمون المهاجرون بطوع إرادتهم إلي الدول العلمانية، وهم في مهاجرهم تلك (يموتون في العلمانية) ولا يرضون لها بديلا.يبذلون كل غال ورخيص من أجل البقاء في مراتع العلمانية، ويتسابقون إلي الحصول على جوازات دولها، يفرحون بها مثلما يفرحون بمولود جديد، لدرجة أنهم يحتفلون بها، ويباركونها لبعضهم البعض، وهم في غمرتهم تلك، لا ينتبهون إلي أنهم إكتسبوا مواطنة كاملة لا يجدنوها في أي دولة إسلامية غير دولهم، ولو وُلدوا في تلك الدول، وينسون أنهم في إحتفالات إستلامهم لهذه الجوازات تقول لهم الدولة رسمياً أنها ساوتهم برئيسها، فعليهم مثل واجبات الرئيس ولهم مثل حقوقه، ولأنني أعلم مدى إفتتان المهاجرين المسلمين بالعلمانية، فلم أستغرب رد الشيخ علي الحاج عندما سألته محمكمة مدبري إنقلاب الشؤم في 1989 ، فقد سُئل عن جنسيته فقال أنه علماني، عفواً أقصد (ألماني من أصول سودانية)، قال ذلك رغم أنه يتمتع بالجنسية السودانية، وكان قبل ذلك قد قال (أن العلمانية رحمة)، والكذابون  يصدقون أحياناً، وقد صدق الشيخ علي في هذا القول.

من أعجب ما قرأت مؤخراً ما كتبه أحدهم، مهاجماً العلمانية وواصفاً إياها بأنها لا تفصل الدين عن الدولة فقط، إنما تفصل الدين عن الحياة كلها، تفصل الدين عن التربية والأخلاق والإقتصاد والمجتمع والسياسة، وأنها تمنع ولاية الرجل على أسرته، ثم توصل إلي نتيجة مذهلة فقال (أنت علماني إذن أنت ديوث)، ولا أعرف إذا كان هذا الشخص موجوداً في دولة إسلامية أم أنه يحيى بإستنشاق نسيم العلمانية العليل في إحدى دولها، ولكن إعتماداً على هذه (الفتوى) الباهرة فقد وجب على كل مسلم يعيش بأسرته في إحدى الدول العلمانية أن يرحل، ويعود إلي حيث لا يكون ديوثاً، أقول هذا وأنا أعلم أن أحداً لن يفعلها، وليس ذلك هو الأمر الذي جعلني أعلق على هذه الفتوى العقيمة، إنما الأمر هو أن الدول الإسلامية نفسها علمانية بشكل ما، ولا توجد اليوم دولة خالية من العلمانية في حكمها، فالسودان مثلاً علماني منذ الإستقلال، فالعلمانية، في نسخة منها، هي أن تَرفع شعار ديني، أو تشير في الدستور إلي ديانة معينة، ثم تحكم حكماً دنيوياً، وهذا الحكم الدنيوي هو ما سارت عليه الدول الإسلامية في تاريخها أجمع، وهذا الوضع هو ما يؤكد عدم إمكانية قيام دولة دينية بالمفهوم التقليدي الذي يسيطر على أذهان البعض، فالحكم دائماً دنيوي وبالتالي علماني بشكل ما، فتصوير العلمانية على أنها رجس من عمل الشيطان، ونجاسة لم تتدنس بها الدول الإسلامية فتزييف واعي متعمدْ من البعض، وغير واعي وغفلة من الأكثرية، وهذه العلمانية العشوائية مضرة، إذ هي المسئولة عن التدني الديني والدنيوي الذي تعيشه الشعوب الإسلامية، ولا بد من أن يتركز الدعوة الآن إليتصحيح مفهوم العلمانية، وتخليصها من تآمر ذئاب الإسلام السياسي، وتصفيتها من شوائب المفاهيم الدينية الخاطئة، وتطبيقها تطبيقاً صحيحاً، فالعلمانية نظرية، وككل النظريات تتعرض في تطبقيها لتجاوزات تفسدها، والعلمانية الصحيحة والمعافاة المناسبة لشعوبها، يحتكم إليها الآن بعض الدول الإسلامية ذات الأغلبية المسلمة.

نواصل

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى