الواثق كمير يكتب : رِحلتي مع مَنصُور خَالِدْ: فريدُ عَصْرِهِ ونسيجٌ وَحدَهُ!

 

الحلقة (13)

 

استجاب زعيم الحركة الشعبيَّة، وصاحب المُبادرة، إلى توصيات تقرير المُتابعة الأوَّل، فأصدر منشوراً في 17 مايو تحت عنوان” “دعوة إلى اجتماع لواء السُّودان الجَّديد وتكوين الأفرُع”، مُوجَّهاً إلى “السُّودانيون الجُّدُد”. جاء خطابه في تسع نقاط، ابتدرها بأنه عمل على تدوين كل رُدُود الفعل المُختلطة، السلبيَّة منها والإيجابيَّة، على المبادرة. فهو لا يرى عجباً في أن تكون حكومة الجبهة الإسلاميَّة في صدارة المُهاجمين لفكرة اللواء التي اعتبرت أنَّ القَصْد منها القيام بحملة للإرهاب في شمال السُّودان. ويضيف د. جون، أن هذا التصريح يأتي من نفس الحُكومة التي تُرهِب مواطنيها في الجنوب وجبال النوبة ودارفور، كما أنَّ الجبهة لها مثيلاتها من القُوى الأخرى التي تأخذ الحرب والدمار والمذابح من المُسلمات . لذلك، أبدى أسفه أن يكون إطلاق مبادرة “لواء السُّودان الجَّديد” نقطة التقاء بين الجبهة الإسلاميَّة وبعض العناصر في الشمال، الذين لا يرغبون في أن تتأسَّس قاعدة صلبة لبناء السُّودان الجَّديد. وبذلك أعاد التأكيد بأن الهدف الرئيس وراء المبادرة هو خلق “سُودان جديد” وأفضل لكُلِّ السُّودانيين، الذين يرتهنون لأجندة الجبهة فاقدة المِصداقيَّة.

فيقول د. جون، على حدِّ تعبيره، «شعرتُ شخصياً أنه ربما كان قدري أن أقوم بمُبادرة إنشاء لواء السُّودان الجَّديد كمنبرٍ بديلٍ لأنصار الحركة والمُؤيدين لها في الشمال لمُباشرة العمل السياسي والعسكري الإيجابي. سوف يُعمِّق اللواء بالضرورة الطابع القومي للحركة ويلعب دوراً سياسياً وعسكرياً فعَّالاً بالقرب من مركز السُّلطة في السُّودان. وبناء على ذلك، فإنَّ جميع الرجال والنساء السُّودانيين الذين لديهم هواجس من الطبيعة الوحدويَّة والقوميَّة للحركة ليس لديهم سبب لعدم الابتهاج بإنشاء لواء السُّودان الجَّديد…. وفي هذا السياق، أواصِلُ الآن إجراء مشاورات مع مختلف فروع اللواء داخل البلد وخارجه بهدف إنشاء هياكل مرنة تسمح للواء من العمل بفعالية….مع أخذ كل ذلك في الاعتبار، أخطط للدعوة إلى اجتماع في المناطق المُحرَّرة، أو في مكانٍ مناسب خارج البلاد. سيُشارك في هذا الاجتماع ممثلون تمَّ اختيارهم توافُقياً من قبل فروع لواء السُّودان الجَّديد في وقتٍ مناسب لجميع المشاركين لمناقشة التنظيم وخطط عمل اللواء”. هكذا، استجاب زعيم الحركة للاقتراح الذي قدَّمناه له كأحد توصيات اجتماعنا مع ياسر وألير في أسمرا، وضمنته في تقرير المتابعة الأول، في مطلع مايو 1995.

وبعد أسبوع من صدور المنشور الخاص بالدعوة لاجتماع “لواء السُّودان الجديد”، في 23 مايو 1995، بعث لي د. جون برسالة فاكس من ثماني نقاط، أُلخِّصها في قوله: ‏«أرسل لي مكتب الدكتور منصور للتو تقريرك المرحلي. أطلعني ياسر وفرع أسمرا للواء السودان الجديد على زيارتك، وناقشتُ معهم النقاط التي أثرتها في تقريرك. اتخذتُ إجراء بشأن هذه المخاوف عندما زارني د. منصور قبل أيام قليلة. تجد مُرفقاً مع هذه الرسالة منشوراً خاطبتُ به “السودانيون الجُدُد” (المشار إليه أعلاه)، وأفرُع اللواء، والمُؤيدين والأعضاء المُحتملين، داخل وخارج البلاد. وفي هذا الخطاب دعوتُ لاجتماع للواء السودان للجديد، ربَّما في أغسطس، كما اقترحت أنت في تقريرك….على هذه الخلفيَّة، فإنه يمكن مفهومياً اعتبار اللواء كجسر بين الهياكل التقليدية للحركة/ الجيش الشعبي وذلك التنظيم السياسي الوطني ذو المصداقية الذي نسعى للوصول إليه (حركة السودان الجديد الناشئة). وهذا يفسر استخدام مصطلحات مثل اللواء وأمر التأسيس لتأكيد الروابط العضوية بين لواء السُّودان الجَّديد والحركة. ولكي نحقق هذا الهدف، فمن البديهي أن يكون للواء السودان الجديد قدرٌ كبير من الاستقلاليَّة والمُرونة من هياكل الحركة الشعبيَّة، بينما في نفس الوقت، يتمتع بالغطاء والحماية من الحركة/ الجيش الشعبي».

ختم د. جون رسالته لي بأنَّ د. منصور قد سافر إلى القاهرة ومعه نسخة من المنشور والذي سيقوم بتوزيعه إلى كُل المعنيين بالأمر، ويدعوني أيضاً لتوزيعه على أوسع نطاق، على أن نلتقي لتبادُل وجهات النظر بنيروبي في أوائل يونيو 1995. لسوء الطالع، لم يُقيَّض للاجتماع الذي دعا له د. جون أن يتم، إذ تضافرت عدَّة عوامل منعت انعقاده، من ضمنها تصاعُد العمليَّات العسكريَّة خلال تلك الفترة، وانشغاله في جبهات القتال، وتعثر التمويل، ومناهضة بعض القُوى للمُبادرة كما ستتكشف الحلقات القادمة (13 و14و15).

ومع ذلك، بالرغم من تعذر انعقاد الاجتماع المُوسع لـ“لواء السُّودان الجَّديد”، لم يجد الإحباط طريقه إلى أنفُسنا، ولم يتوقف مسعانا أو تعطلت جُهُودنا في مواصلة محاولات تطبيق المُبادرة على أرض الواقع. ففي 17 نوفمبر 1995، أرسلت عن طريق “تقرير المتابعة 2” إلى د. جون، وكالعادة بصورة إلى منصور، وكان موضوعه: “التعبئة للواء السُّودان الجَّديد وتشكيل المجموعة الأساس في القاهرة”. أشرتُ في التقرير إلى لقائي معهما في نيروبي ونقاشنا حول هذا الموضوع، في الأوَّل من يوليو 1994، حيث أكَّدنا ضرورة أن نقوم أنا وياسر بمُهمَّة متابعة إلى القاهرة بهدف تعزيز العمل الذي بدأناه سابقاً خلال العام. وبذلك، حدَّدنا هدف المُهمَّة في التعبئة للمبادرة وبناء مجموعة أساس قويَّة من أجل تجنيد أعضاء اللواء للنشاطات السياسيَّة والعسكريَّة، والإعداد للمُؤتمر التأسيسي له. تمَّ القيام بالمُهمَّة في الفترة من 16 أكتوبر إلى 8 نوفمبر 1995، عقدنا خلالها عددا من الاجتماعات مع مجموعات من “السُّودانيون الجُّدُد”، راجعنا فيها التجربة السابقة في تكوين المجموعة الأساس للواء، إضافة إلى العُيُوب والمزالق التي شابتها في الماضي. وقد حددنا أسباب هذه الإخفاقات في الآتي: 1) انطلق المسعى بالمبادرة دون معرفة مسبقة بالواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي للجالية السودانية في القاهرة، وهو شرط ضروري للتواصل والوصول إلى العناصر الناشطة وأولئك الملتزمين بمفهوم السودان الجديد، 2) ضعف تفصيل مفهوم لواء السودان الجديد نسبة لغياب الوثائق المرجعية حينئذ، 3) التخريب المتعمد للعملية من قبل بعض الأفراد الذين تبين أنهم ينتمون إلى حزب سياسي معين، و4) انقطاع المتابعة الدقيقة منذ أبريل 1995.

ولكي تتم الاستفادة من دروس هذه التجربة، ووضع المبادرة في مسارها الصحيح، اتفق الجميع على القيام ببعض الخُطُوات ذات الصلة. جاء على رأس هذه المهام، صياغة برنامج العمل بأهدافٍ مُحدَّدة قابلة للتنفيذ وتطوير هيكل تنظيمي مَرِن، مع تفصيل البرنامج السياسي للواء. وبالفعل، تمَّت صياغة وثيقة متكاملة، ولو قابلة للتطوير حتى الوُصول إلى المُؤتمر التأسيسي، أسميناها: “لواء السُّودان الجَّديد: برنامج العمل”، شملت خلفيَّة تاريخيَّة للسُّودان الجَّديد، أهداف اللواء والمبادئ التي تحكُم عمله، ووسائل تحقيق أهدافه، وآليَّاته وطبيعة تكوينه. ومن المهم الذكر أنه من بين المقترحات التي قدمتها في التقرير انتداب المرحوم القائد ياسر جعفر لمصر، لمدة تتراوح بين 3 و4 أشهر، وتكليفه تحديداً بمتابعة نشاطات مجموعة القاهرة الأساس للواء السودان الجديد. كما شملت الخطوات التي تم طرحها: إطلاق حملة إعلامية من خلال الاستخدام الأمثل لوسائل الإعلام المتاحة لتقديم المبادرة لجميع السودانيين والعمل على خلق رأي عام مؤات، نشر جميع الوثائق والمؤلفات المتعلقة بالمبادرة في شكل يسهل الوصول إليه (كتيب أو كتاب) لجميع الأطراف المعنية.

ولمخاطبة الشكوك التي ثارت حول المُبادرة، وإزالة اللغط الدائر، قُمنا بمخاطبة بعض التنظيمات السياسيَّة، ومقابلة قياداتها، خاصة: حركة القوى الجديدة (حق)، اللجان الشعبيَّة للانتفاضة، والتحالف الدِّيمُقراطي. وأجرينا نقاشاً مطولاً مع د. التيجاني سيسي، من حزب الأمَّة، وتوصَّلنا إلى تفاهُمٍ معه بإعطائه الفرصة للتفكير الجاد حول شكل من أشكال العمل المشترك. من ناحية أخرى، اجتمعنا مع الفريقين فتحي أحمد علي وعبد الرحمن سعيد، من القيادة الشرعيَّة، حيث قدَّمنا لهُما تنويراً حول مبادرة لواء السُّودان الجَّديد، واستكشاف المجالات التي يمكن أن يكون لنا فيها عملٌ مُشترك، وطلبنا منهم كتابة ورقة مقتضبة في هذا الصدد. وبغرض تعزيز نقاشاتنا وما توصلنا إليه من تفاهُماتٍ مُشتركة، والوصول إلى نتائج ملموسة، اقترحنا في التقرير أن يلتقي رئيس الحركة وصاحب المبادرة، بالقيادة الشرعيَّة ود. التيجاني سيسي. ولا يفوتني هُنا أن أذكُر لقاءنا مع المرحوم الأستاذ بشير بكَّار، الرَّجُل المهموم والمهتم بقضايا وطنه والمتجرِّد من المصالح والأهواء الشخصيَّة، والذي نذر نفسه للقضيَّة الوطنيَّة ونأى بنفسه عن الانزلاق في الذاتيَّة، السمة المُميِّزة لأغلب المثقفين السُّودانيين. كان بكَّار حينئذٍ يعمل في بعثة الأمم المتحدة للمُراقبة في الصَّحراء الغربيَّة، وجاء بكَّار إلى القاهرة في مهمَّة بخُصُوص توحيد تنظيمات “القُوى الحديثة”، إلا أنه أبدى حماساً ومناصرةً للمُبادرة، ولو للمُفارقة، لم يسمع بها قبل لقائنا به. اقترحنا في تقرير المُتابعة على د. جون أن يتواصل معه، ممَّا سيُعِدُّها بكار لفتة طيِّبة، وإحياء المُناقشات السابقة التي دارت بينهُما. وبالرغم من أنَّ بكَّار قد التحق بـ“حق” لاحقاً، إلَّا أنه كان وثيق الصِّلة بالحركة الشعبيَّة، خاصة بعد حُضُور وفد المُقدِّمة إلى الخُرطوم في أعقاب توقيع اتفاقيَّة السَّلام الشامل.

وإذا كان همُّنا الرئيس، في تلك المرحلة، هو تشكيل المجموعات الأساسيَّة للواء وتوسيع العُضويَّة استعداداً للمُؤتمر التأسيسي، كان ينبغي علينا أن لا نُغفِل أماكن تركيز تجمُّعات السُّودانيين الأخرى، خاصة السُّعُوديَّة ودول الخليج، كما أكَّدنا في تقرير المُتابعة الأوَّل. ورغماً عن اتفاقنا السابق بتنظيم جولة في هذه البلدان، إلا أنَّ ذلك لم يتحقق بصورة فعَّالة، عدا زيارة د. منصور المقتضبة إلى قطر والكويت، مما دعاني لإثارة الموضوع معه مرة أخرى من أجل اتخاذ خطواتٍ عملية. ومن جهة أخرى، التقينا بوفد لـ“القوى الحديثة” كان قد وصل للتوِّ من كندا، والذي كشفت نقاشاتنا معهم أنه لا بُدَّ من اختيار شخص لإدارة مكتب الحركة. كان ذلك من الأهميَّة بمكان، نسبة لأنه قد بدا لنا أنَّ بعض الأفراد يستغلون علاقاتهم مع الحركة لخدمة أهدافهم الخاصة. ومن ناحية أخرى، تم الاتصال والتواصل عن طريق بعض أعضاء المجموعة الأساسية مع بعض الأفراد والمجموعات في داخل السودان، ومن ثم تحديد أشكال التنسيق بينهم.

ختمتُ تقريري إلى جون قرنق ومنصور بحصيلة اجتماعاتنا مع د. فاروق محمَّد إبراهيم ود. حيدر إبراهيم علي، عن اللجان الشعبيَّة للانتفاضة، وحوارنا المُطوَّل معهُما حول مبادرة “لواء السُّودان الجَّديد”، واقترحنا أن يلتقي بهما زعيم الحركة وصاحب المبادرة. سأترُكُ هذا الأمر للتفصيل والتوضيح في الحلقتين 15 و16.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى