الواثق كمير يكتب : رِحلتي مع مَنصُور خَالِدْ: فريدُ عَصْرِهِ ونسيجٌ وَحدَهُ!  

الحلقة (6)

قصة اعتقال بسبب منصور!

 

        في سبتمبر 1989، وقعت حادثة مبكية ومُضحكة في آنٍ واحد، تسبَّبت فيهاعلاقتي مع منصور بعد فشل محادثات السَّلام في أديس التي انتهت إلى“الاتفاق على عدم الاتفاق”، ودق حكومة الانقلاب لطُبُول الحرب ضدَّ الحركة والجيش الشعبي. التقى صديقي وابن عمِّي الرَّاحل د. عاطف صغيرون مع د. منصور في لندن، لأوَّل وربما آخر مرَّة، عن طريق أصدقاءٍ مشتركين لهُما، أذكُرُ منهم الأصدقاء إبراهيم الكوباني وخالد كرَّار وإبراهيم عبد المنعم وأمين النفيدي ومحمَّد الحسن لوممبا. وبعد عودته من لندن، جاءني عاطف في منزلنا بحي باريس، وهو يسكن في نفس الحي، وحدَّثني عن لقائه بمنصور، وسلَّمني وُريْقَة صغيرة بخط يده، علمتُ منه أنه كان يسجِّل فيها ما أراد منصور أن يبعثه لي من رسالة. بعد أن شكرتُهُ، أبلغني أنه سيعود إلى لندن خلال أسبوع إن كان ليردٌّي حمله إلى منصور، وبالفعل زُرتُه في أحد الأمسيات بمنزله وأسررتُ له بما رغبتُ في نقله إليه. ولكن، هذا لم يحدُث، إذ تمَّ توقيف عاطف في بوابة المُغادرة ورحلته على وشك الإقلاع، فأعيدت له أمتعته ومُنِع من السَّفر. عاد إلى منزله“مُؤقتاً” إذ لم يتم اعتقاله في المطار، لكن الطريف في الأمر، أنه قد طُلب منه أن يراجع مكتب الأمن. ذهب طوعاً في اليوم التالي لمكاتب جهاز الأمن ليتحرَّى عن أسباب حرمانه من السَّفر، فاعتُقِلَ ولم يُطلق سراحه إلا بعد 6 أشهر. قضى عاطف تلك المُدَّة في وقتٍ كان يُعاني فيه من الغُضرُوف ويتوكَّأعلى عصاة، وهو إنسانٌ لا يعرف“كوعه من بوعه” في شأن السياسة، ولم يكُن له فيها ناقة أو جمل.

        تسبَّبت هذه الحادثة في سُخط “أهلي” عليَّ داخل الأسرة عبَّر عنه البعض على شاكلة: “لو لا تعرُّف عاطف بمنصور عن طريق الواثق، لما وقع اعتقاله!”.

 لم يُحقق معه إلا ضابط واحد ولفترة قصيرة وجَّه له خلالها ثلاثة أسئلة على شاكلة: “يا بروف، إنت زول ما ساهل، وما دام انت زول سياسي، من الأحسن أن تستفيد الثورة من شخصكم”. كان رد عاطف صادقاً وقاطعاً بأنه لم يعمل طيلة عمره في مجال السياسة، وليس لديه أي علاقة مع الأحزاب السياسيَّة، ولكن يشتغل بالسياسة السُكَّانيَّة. وإضافة إلى أنه كان مدير المجلس القومي للسُكَّان ساعة اعتقاله، وقد كان أصلاً مسافراً إلى كندا، عبر لندن، للمُشاركة في مؤتمر دولي حول السُكَّان.. فكان السؤال الثاني مُتعلقاً بما إذا كان له أعداء في مكان العمل؟  الأمر الذي نفاه عاطف. أمَّا السؤال الثالث، فكان عن علاقته بـ“الدابي”، الذي كان يملك بقالة في مواجهة مبنى المجلس، شارع 47 بالخرطوم 2، وتعرَّف على عاطف وكان يزوره بعض الأحيان.. الدابي سوداني يحمل الجنسيَّة الألمانيَّة وعاد للبلاد بعد غيبة طويلة فاستثمر في هذه البقالة، وكان عاطف يشتري منه البُن، فقد كان عاشقاً للقهوة. فبيت القصيد في قصة اعتقاله أنَّ الدابي كان قد زاره كالعادة في المكتب في صباح يوم سفره، ولكن هذه المرَّة جاء حاملاً لنُسخة من مانيفستو الحركة الشعبيَّة وطلب من عاطف تصويره له، والذي لم يستجب لطلبه! بعد ستة أشهر من الاعتقال، تمَّ إطلاق سراحه في منتصف يناير 1990، فأبلغتُ منصور الذي أبدى غضباً شديداً، ولكنه ضحك بعد الإفراج عنه وروايتي له عن“السُّخط الأهليُّ” الذي اشتعل في الأسرة بسببه.

مغادرة البلاد

أبقى المجلس العسكري الانقلابي على كشف الأسماء التي حظرها وزير داخليَّة الحُكومة المُنتخبة بعد المُشاركة في آمبو كما هو في قائمةالحظر، تحت عنوان: “عدلان الحردلو وآخرون”. فعندما قرَّرتُ السفر، في إجازة مع أسرتي، إلى مصر في مايو 1990، رفع وزير الداخليَّة، فيصل علي أبوصالح (بواسطة ابن عمه الصديق صلاح حسن أبوصالح)، اسمي من هذه القائمة مُؤقتاً بقرارٍنصَّ بالحرف: «السماح  له بالسَّفر على أن يُعاد إدراج اسمه بالقوائم عقب عودته». وبالطبع، بعد وصولنا إلي القاهرة، نصحني المُريدون والمُحبون أن لا أعود تخوُّفاًمن عواقب وخيمة لمثل هذا القرار، وفعلاً لم تطأ قدماي أرض الوطن إلا في أبريل 2005. وبالطبع، ما كُنتُ لأعلم بفحوى قرار رفع الحظر لولا الصَّديق الرَّاحل – الرائد حينئذٍ – عبد الوهاب الجعلي (شقيق الصديق والزميل الرَّاحل د. محمدعثمان الجعلي)، الذي صوَّرل ينسخة منه، حيث كان مديراً لمكتب مدير الجوازات والجنسيَّة والهجرة.

        هكذاغادرتُ الخُرطوم في 13 مايو 1990 إلى القاهرة، المدينةالتي استضافت كُل أطياف المعارضة السُّودانيَّة، وشَهِدَت توقيع الحركة الشعبيَّة لتحريرالسُّودان على ميثاق التجمُّع الوطني الديمُقراطي، بالأحرف الأولى، في 27 مارس. هذاالميثاق كان قد وقعه في 21 أكتوبر 1989 أحد عشر حزباً وثلاثون نقابة مهنيَّة، إلى جانب واحد وخمسين نقابةعُمَّاليَّة، والذي أصبح فيما بعد دُستوراً للتحالُف المُعارض. كان رأي الحركة أنّ ذلك الميثاق قاصر في أكثر من جانب، خاصة أنَّ التحليل الشكلي للأزمة قد طغى عليه، وأغفل الأزمة المُتمثل في الاختلالات الهيكليَّة في الجسم السياسي، ودورُ التهميش الاقتصادي والاجتماعي في تلك الاختلالات التي لم تنتج إلا حرباً. عبَّرت الحركة عن هواجسها وظنونها فيما التقى حوله التجمُّع في مذكرةٍ، أرسلهالي د. منصور في النصف الثاني من فبراير 1990، واشترك د. لام أكول معه في صياغتها. شكَّلت المذكرة أساساً ًللتفاوُض بين الحركة وقُوى التجمُّع الأخرى حتى تمَّ التوقيع على مُسودَّة الميثاق، كماأشرتُ سابقاً، في نهاية مارس 1990.

        هكذا، وصلتُ فوجدتُ نفسي مُنخرطاً في النشاط السياسي للتجمُّع، مُشتركاً في اجتماعاته بغرض مزيدٍ من التفاكُر حول ميثاقه المُوقع وتطويره ليتسق مع التطوُّرات، خاصة في أعقاب انضمام الحركةالشعبيَّة وما طرحته من ملاحظات تستدعي حواراً أعمق. أوَّل اجتماع شاركتُ في هكان يهدفُ إلى النقاش حول تكوين التجمُّعالوطني الديمُقراطي لجسمٍ تحالُفي استناداً على الميثاق المُوقع. تمّ ذلك الاجتماع بمنزل المرحوم الأستاذ محمدالحسن عبد الله يسن، وضمَّ: د. أحمد السيد حمد، د. محمود زروق، د. علي أبوسِنْ، والأساتذة مهدي داؤد وحسن أحمد الحسن وصلاح جلال، أستاذ محمَّد وردي، أستاذ فاروق أبوعيسى، وأستاذ بابكر عليبوب (الذي توفاه الله بعد بضعة أيام من ذلك الاجتماع). وعقدناعدَّة اجتماعاتٍ مماثلة في منزل د. علي أبوسِنْ، إذ اتفقنا أن يكون مكان الاجتماعب التناوُب بين شقته ومنزل محمَّد الحسن عبد الله يسن.

        مكثت  في القاهرة حوالي الثلاثة أسابيع، لم تنقطع خلالها اللقاءات مع قيادات القوى السياسيَّة والشخصيات الفاعلة من المعارضة التي بدأت في التوافُد إلى مصر منذ مطلع التسعينات. خلال هذه الأسابيع،علمت ُمن منصور أنَّ وفد الحركة الذي قام بالتوقيع الأولي على ميثاق التجمُّع، الذي ضمَّ بجانبه لام أكول ودينق ألور وياسر عرمان، وَعَدَ الموقعين الآخرين بعقد لقاءٍ لهُم مع رئيس الحركة في أقرب سانحة. وذلك، على خلفيَّة ما لمسه وفد الحركة من توجُّسات ممثلي الاتحادي الدِّيمُقراطي، أحمد السيد حمد ومحمدالحسن عبد الله يسن، من انضمام“تنظيم مسلح” إلى تحالف سياسي. وبالفعل، سافرتُ إلى أديس أبابا في نهاية الأسبوع الأوَّل من يونيو، 1990، بع دنجاح منصور وياسر في ترتيب لقاءٍ مُصغَّر في صالون بيت دينق ألور المتواضع بحُضُور جون قرنق،لأوَّل مرَّة، المرحوم الدكتور عز الدين علي عامر، مبارك الفاضل، ياسر عرمان، وصدِّيق بولاد. بعد نقاشٍ ومداولات ، اتفق الحُضُور عن عقداجتماع مُوسَّع لقُوى التجمُّع في يوليو، أي بعد شهرٍ منذ لك التاريخ، على أن يتم إبلاغ زعيم الحزب الاتحادي الديمقراطي بذلك. طلب د. جون من منصور الاتصال بمولانا الميرغني، الذي كان وقتها مقيماً في مكة، ليتحدَّث معه فالأمر. اتصل به منصور من تلفون دينق بالمنزل، فل ميك نالموبايل قد ظهر في ذلك الحين، وتبادل معه التحايا، ثمّ َقدَّم هإل ىد. جون. استمع مولانا إلى تلخيص نتائج اللقاء واتفاق الحاضرين على تنظيم اجتماع مُوسَّع للتجمُّع في يوليو بأديس أبابا، كما طلب منه د. جون أن يختار مُوفده للمُشاركة فيه. الطريف في الأمر، بعد أن أنهى د. جون مكالمته مع مولانا، قال، بابتسامة عريضة: «هسه يا جماعة حُكُم بتاع شريعة شنو في واحد كافر زيي أنا يتكلم بالتلفون مع مكة؟».. فضحكنا حتى بانت نواجذنا.

        بالفعل، أيضاً انعقد الاجتماع المُوسَّع المُرتقب في نهاية يوليو 1990، في فندق الـ“غيون”بأديس أبابا، وأوفى مولانا الميرغني بعهده، فابتعث المرحوم الدكتور محمد عثمان عبد الله لتمثيل الحزب الاتحادي الدِّيمُقراطي. شارك في ذلك الاجتماع، الأوَّل من نوعه،مبارك الفاضل وصديق بولاد ونجيب الخير وعبدالحفيظ عبَّاس (حزب الأمة)،سلفاكير وأليجامالوكود. منصور وياسر عرمان ودينق ألور (الحركة الشعبية لتحريرالسُّودان)،التيجاني الطيِّب وعز الدين علي عامر (الحزب الشيوعي)، الفريق أوَّل فتحي أحمدعلي والفريق عبد الرحمن سعيد واللواءالهادي بُشرى (القيادة الشرعيَّة)،بوناملوال وبيترنيوت كوك والواثق كمير (شخصيات وطنيَّة).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى