لا هوادة الحل في (الأُمَّة البنَّاءة)

محمد بشير عبادي يكتب :
يروى أن أحد أثرياء أم درمان كان يمتلك عدداً كبيراً من العقارات عدها البعض من باب المبالغة أنها تشكل نصف عقارات أم درمان القديمة، وأن صاحب هذه العقارات كان يمتطي حماره منذ الصباح فيطرق أبواب المنازل والمتاجر ليتحصل أجرتها ويظل يفعل ذلك بشكل راتب يوميًا وعندما ينتهي من آخر عقار يملكه يكون الشهر قد بدأ من جديد وهكذا دواليك هو في حالة تحصيل.
ذكرتُ هذه الرواية كمدخل للحديث حول زيارة وزير الخارجية (مايك بومبيو) للسودان ومباحثاته مع الدكتور عبد الله حمدوك رئيس الوزراء الانتقالي، حول رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، وكذلك مباحثاتهما حول تطبيع السودان لعلاقته مع العدو الصهيوني، هذا التطبيع الذي دشنه بومبيو فعلياً بقدومه إلى الخرطوم مباشرة جوًا من تل أبيب في أول رحلة جوية مباشرة بين المدينتين المتقاطعتين منذ نشوء الكيان الصهيوني.
إن ما يقوم به وزير الخارجية الأمريكي سادتي ما هو إلا عملية (تحصيل) للموارد من الدول التي تقع تحت هيمنتها، فأمريكا هي الوريث لبريطانيا العظمى في مستعمراتها عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية والمعروف تاريخاً ما هو الدور الأمريكي فيها، وكيف كان حال بريطانيا عقب الحرب رغم خروجها منها منتصرة.
أمريكا كدولة استعمارية تعيش على موارد الدول التي تقع تحت سيطرتها بالوراثة كدول الخليج وجزء كبير من دول أفريقيا والأخيرة هي الأرض الخصبة للموارد التي تحتاجها من معادن وبشر (موارد مادية وبشرية).
التحصيل الأمريكي من السودان بدأ منذ أن بلع الرئيس الراحل الفريق إيراهيم عبود الطعم الأمريكي بقبوله المعونة الأمريكية تلك الجزرة التي بموجبها تمكنت القدم الأمريكية من الوطء على أرض السودان، في أكبر خطأ إستراتيجي للسلطة الحاكمة وقتها، لأن الجزرة تحولت بعد أن تغلغلت السياسة الأمريكية في مفاصل الدولة السودانية إلى عصا تضرب رأس السودان كلما حاول الانعتاق أو النهوض، وذلك منذ نهاية الستينيات حتى يومنا هذا.
يجب ألا نفرط في التفاؤل بهذه الزيارة التي سيحسبها بعض المتسطحين سياسياً أنها ستعيدنا إلى المجتمع الدولي وستحدث انفراجاً لكل أزماتنا هكذا ضربة لازب، حتى إن تم رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب سيتم ذلك وفق تصورهم وإرادتهم هم، ساعتها سيرهن اقتصادنا إلى أمريكا ويصبح دولارياً بعد أن تقوم شركاتهم ووكلاؤهم بنهب مواردنا النقدية الحقيقية كالذهب والبترول وبقية المعادن وكافة الأنشطة الاقتصادية الفاعلة، سنعود لعهد الاستعمار البريطاني الذي قدم رشى للنخب متمثلة في الوظائف المرموقة بامتيازاتها المغرية وبما قدمه للأعيان من مناصب قبلية وبما قدمه من رفاهية محدودة لسكان المدن مهملاً بقية بلاد السودان، فعاش مواطنها يرزح تحت نير الفقر والمرض والجهل ومقابل ذلك نهبت كل الثروات ليغتنوا هم وليدقوا اسفيناً بين مكونات أهل السودان لتشتعل الحروب حال رفع السودان رأسه.
أما التطبيع مع إسرائيل فلا أريد الخوض فيه، فالمسألة محسومة دينا وتجربة، انظروا فقط للبلاد المسلمة التي طبعت مع إسرائيل، ماذا جنت؟؟!!.
لما لا يغلق السودان باب بيته عليه و(يكرب نصو) كما فعلت الصين قبلاً وكما فعلت تركيا ودول شرق آسيا، فلنراهن هذه المرة على الشعب السوداني قواعد وأفراداً ولنتجاوز النخب السياسية حاكمة ومعارضة وذلك بإنشاء منظمات فاعلة للمجتمع المدني، ترفع من الحس والإرادة الوطنية للناس وتعمل على تحويل نمط العيش لدينا من أمة مستهلكة إلى أمة منتجة، أمة مبدعة تحول موارد بلادنا الضخمة إلى ذهب وفضة، عبر العمل الجماعي وأسلوب النفير كل حسب تخصصه وكفاءته، فلنتحرر من عقلية (أفندي الميري) واستعلاء المثقفاتية ولنخرج من الأبراج العاجية، ذلك السجن الوهم الذي وضعتنا فيه مناهج الغرب بأدوات شتى.. لنتحول إلى (أمة بنّاءة)، لا هادمة مُتواكلة تعيش على إبداعات دول أخرى، لنُدير مواردنا بكفاءة ومسؤولية فتكون يدُنا العليا لا السفلى، لنجعل الأمم الأخرى تخطب ودّنا لا لتبتزّنا لتأخذ ما عندنا دون جزاء أو شكورا.. فليرتفع الوعي لدينا ولنخرج من غيبوبتنا الفكرية والثقافية ونغير نمط عيشنا التقليدي، لنطوع الانفتاح نحو العالم لصالحنا لا لننجرف لنتمزق داخل عجلته سريعة الدوران.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى