الحبس على الطريقة الكندية

محمد محمد خير يكتب :

لدى وصولي مطار تورنتو، أجريت فحصاً أولياً لـ”كورونا” وضح أن نتيجته الأولية كانت سالبة. لكن السُّلطات الصحية سجّلت عنواني ورقم هاتفي المُتحرِّك، ووقّعت ورقة تعهّدت فيها بحبس نفسي بعنواني حسب طلب السُّلطات، وتعهّدت أيضاً في فقرة أخرى بأنني ملزمٌ بإخطارهم حال خروجي لأي مكان آخر مهما بعُدت أو قرُبت المسافة.
أعانني ابني الأكبر في الحصول على كل احتياجاتي الغذائية، واتصلت بصديق العُمر الدكتور منير شكر الله ليقيم معي ريثما تعود زوجتي من السودان.
فقد تركتها في هذا الوادي غير ذي الزرع لأسبابٍ تتعلّق بضرورة عودتي لكندا، لأن كل أدويتي التي قرّرها الأخصائيون قد نفدت، وأخبرني صيدلي كبير في السودان بأن هذه الأدوية لم يستوردها السودان منذ أربعة عقود، ونصحني بالسفر، قاطعاً بأنني لن أجد نوعاً منها هنا، وهكذا عملت بنصيحته وغادرت وامتثلت طوعاً لقرار السُّلطات الصحية الكندية بالحبس المنزلي لأسبوعين تنتهي غداً بإذن الله.
ظل أبنائي على اتصال يومي بي من مُدنهم المُختلفة، وشجّعني أصغرهم وأكثرهم ذكاءً بأنّه بمقدوري الخروج من المنزل وتجاوز التعهُّد الذي وقّعت عليه، لأنه ليس بمقدور السلطات الصحية مراقبتي طوال اليوم، معتبراً التعهد مجرد إجراء شكلي لا يترتّب عليه أي شيء.
لم أكن في حقيقة الأمر احتاج للخروج، فوجود الدكتور منير معي أغناني عن الشارع، فلدينا أرض قوية مشتركة تستند عليها ذكريات وأيام مضت وهموم تتقاسمنا معاً، فعلاقتنا تمتد لأكثر من أربعين عاماً فقدنا خلالها الوالدين والأعمام والأحبّة في الفتيحاب والكلاكلة، وكبرنا وهرم أصدقاؤنا وتقاسمتهم المنافي في أمريكا وأوروبا وأستراليا والخليج، ويربطنا وجدان مشترك خصيب تجاه السودان ومن تبقى فيه من أهلنا، ونتابع معاً المخاطر التي تحيق به ومنافذ الأمل وبؤرة الضوء البعيدة التي تبدو بعيدة للعين وقريبة للأفئدة. نتطلع معاً لبلد صافٍ وعذب يعانقنا بحنوه في خريف عمرنا وذلك ما يفرض قدراً من العقلانية حين نتناول مشاكله المُعقّدة وانعطافاته الحادة ومصيره الغامض في ظل تباعُد مواقف قواه السياسية وانقسامات تشكيلاته الاجتماعية وبروز مفردات جديدة خارجة من رحم التضادات الاجتماعية كمفردتي هامش وجلابة، ونتفرس معاً هذا الاحتقان الذي يوشك التفجُّر.
كانت هنيهة ملأتنا بالأمل إثر تسجيل صوتي بعث لي به صديقنا ياسر عرمان يرسم فيه طريق سلامة تحيل كل الكوابيس لنغم، لكن ذلك يظل مرسوماً في المخيلة.
ظللنا أنا ومنير حبيسين في الشقة، نتابع أخبار السودان والملهاة المعيشية وتضجر زوجتي من الكهرباء والحر وتزايد سعر رطل اللبن والمعاناة التي تنقلها لنا يومياً وتحسدنا على نعمة كهرباء لم تقطع منذ تقوية شلالات نياقرا قبل عشرات السنين.
حين أنهيت الأسبوع الأول من الحجر بنجاح ودقة والتزام أخلاقي، خرجت لوسط مدينة تورنتو وما أن بلغت منتصف وسط المدينة حتى رن هاتفي برقم خاص، فالدوائر الحكومية في كندا تتخبأ في الأرقام التي لا تظهر، وقبل أن أبادل المتصل التحية الكلاسيكية المعهودة، سألني أين أنت الآن? فعرفت أنها السلطات الصحية تتابع دبيبي، فأخبرته بأدب أنني في وسط المدينة، فلامني وعنّفني، وتحت اعتذاري وإلحاحي وتأكيدي بأنها المرة الأولى والأخيرة قبل اعتذاري ووجّهني بالعودة للمحبس، وذكّرني بأن هذه المخالفة تُعرِّض لعقوبة غرامة مالية تبلغ عشرة آلاف دولار كندي.
عُدت طائعاً لمحبسي، فمثل هذه التكنولوجيا لا تُقابل إلا بالاحترام.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى