محمد محمد خير يكتب : الانقلاب الأبيض والانقلاب الناصع البياض

 

في حوار معه أثناء زيارته للسودان عام 88 بدعوة من اتحاد الكتاب السودانيين قال الشاعر العربي الفذ الراحل مظفر النواب إن أكثر ما استمتع به في السودان هو ( العرق) ومضي صعدا بقوله (العرق انقلاب ابيض)!

الانقلاب الأبيض هو ذلك التغيير الذي يحافظ على أبنية الدولة القديمة ويجري بعض التغييرات غير الجوهربة برضى القوى المساندة له، لكن الانقلاب الناصع البياض هو ذلك الذي يقع عندما يكتشف العسكريون أن القوى المساندة له (كيسا فاضي)  فيعمل على تجاوزها باتخاذ قرارات مصيرية دون الأخذ برأيها بما يجعلها في مواجهة حرجة مع شعاراتها وجماهيرها ونفسها ومصيرها وخياراتها.

تأسيساً على حديث الفريق ياسر العطا لقناة الحدث والإفادات المثيرة للفريق أول عبد الفتاح البرهان فإن المنظومة العسكرية هي التي تبنت باكراً خيار التطبيع مع إسرائيل باعتباره الطريق الأوحد لرفع اسم السودان عن قائمة الإرهاب، وللمتفطن أن يتخيل عدد الاجتماعات التي عقدت واللجان التي تكونت ودرجات السرية العالية التي أحاطت بالأمر والسيناريوهات المتعددة التي تم رسمها وأشكال التنسيق الإقليمي والدولي والسفريات ومراكز الإدارة.

كل هذا قام به المكون العسكري دون علم الشركاء الآخرين وارتبط إعلانه بتغريدة لترامب غيرت الأهداف المركزية لمظاهرات 21 أكتوبر وجددت عبارة (شكراً حمدوك).

هذا عمل مجود ومخدوم ويتميز بحرفية عالية ويتطلب لتنفيذه عناصر على قدر عال من (الغتاتة  والبطن الغريقه) وتلك من الصفات التي تميز العسكريين دون سواهم .

أشار الفريق أول البرهان إلى أنه ابلغ 90% من شركاء الحكم، لكن الشركاء ما زالوا يمتنعون ولم يجهر أي منهم بما يؤكد ذلك رغم أن الشق العسكري اعترف وأقر بما يعني استعداده لتحمل النتائج المترتبة على هذه الخطوة رغم انطوائها على خلاف بلا مدى.

خطوة التطبيع التي تبناها المكون العسكري بلا تحفظ عسيرة الهضم على معظم الشركاء فهي تخترق الثوابت عند بعضهم وتمس الطهارة عند آخرين وتتصل بالشرف القومي لدى البعض الآخر.

هذا هو الانقلاب الناصع البياض بعينه، لأن الهوامش التي يتيحها تجعلك أمام خيارين إما شهر الهتاف والسيف وإغما الاستمرار في الشراكة (عشان خاطر الأولاد) وغالباً ما سيكون هذا الخيار على مرارته هو الراجح .

القرارات التي تحمل شكل الفجيعة عادة ما تقابل بانفلات مساو لاستفزازها . انفلات عفوي يحدثه الناس دون ترتيب لأنه يجرح كبرياء المعتقد والثقافة والتربية، لكن أن يمر قرار التطبيع هكذا وينساب بكل هذا التقوس ويصبح حواراً، فذلك ما يعني أن القوى التي تعارضه فقدت حيوية الفعل الشرطي في الشارع وتجففت ينابيعها ونضبت الروافد التي تلهمها، وذلك ما سيرغمها على قبول الواقع (عشان خاطر الأولاد)!!!

مستقبل هذه الشراكة التي تفتقد للخاصرة العاطفية رهين ببنود الاتفاق الإسرائيلي السوداني وطبيعته . هل هو اتفاق شكلي بهدف الدعاية الانتخابية لترمب ورفع الحرج الأخلاقي التاريخي عن إسرائيل أم إنه اتفاق استراتيجي يوظف جغرافياً السودان الفريدة وموارده البكر وكنوز أراضيه لشراكة اقتصادية وسياسية بعيدة المدى?

طبيعة الاتفاق هي التي ستحدد ملامح مرحلة   التطبيع وتحدد أيضاً لون هذا التحول هل سيظل ناصع البياض أم أكثر بياضاً.

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى