وذهب الطيب زين العابدين

بيننا

فجعني الخبر وسط فجائع هذه الأيام التي تحمل رحيل الأحباب الفجائي.. فالطيب من الذين تتمنى ألا تسمع نعيه أبداً، يحضرك صوته النقي الذي ينبي عن سريرة صافية، ولهج صادق، تحضرك مواقفه الباسلة في وجه قوى الشر وقد كان كصالح في ثمود، حينما خرج مغاضباً من مجلس شورى الحركة المسماة إسلامية ولكنها ذبحت الديمقراطية في مجلسها وأضمرت الانقلاب. وإن كان أخوة يوسف إذ ائتمروا على قتله لم ينههم إلا أحدهم فيه بقية من ورع أشار عليهم بالتخلص منه بدون قتله فرموه في الجب، فإن الطيب لم يقف عند ذلك الحد بل جهر بالرفض، وظلت كلماته دائماً كهفاً للمقاومة، تظهر سوءات الظلمة فتسود وجوههم على سوادها حين يقال لهم: وشهد شاهد من أهلها.

 

ظل الطيب كيوحنا المعمدان، ذلك الصوت الصارخ في البرية، والذي جاء عنه أنه المنادي بأن (أَعِدُّوا طَرِيقَ الرَّبِّ، وَاجْعَلُوا سُبُلَهُ مُسْتَقِيمَةً!) وقد كان في ثمود التي نبذها الطيب مكاء وتصدية باسم الله وبكل السبل الملتوية والقذرة.

 

كان الطيب يكافح وينافح من أجل سودان حر ديمقراطي ومن أجل إسلام حقيقي يرفع المستضعفين ويضع المستكبرين، وظل ككاتب ومفكر، وأستاذ بجامعة الخرطوم يكدح على كل الجبهات، وينير في كل الجهات.

 

جمعتني به مواقف كثيرة تظهر بجلاء ذلكم الصدق والصراحة الملفوفة بمحبة، كان يقول الحق ولا يجامل.. جئنا به معقباً على ورقة الأمير عبد المحمود أبو عن التجديد الديني في فكر الإمام الصادق المهدي ضمن ندوة بمناسبة سبعينيته في ديسمبر 2015م فقال إنه يراه مفكراً فرضت عليه مزاولة السياسية “وهو جريء في المجال الفكري ومتحفظ في مجال السياسة العملية مما يدل على أنه يحيط بأغوار المجال الفكري أكثر ويمضي فيه على سجيته دون تردد رغم أنه ينتمي إلى طائفة دينية محافظة قد لا تستوعب بعض أطروحاته الدينية التجديدية خاصة في مجال المرأة”. لم أوافقه ولكن، هل يقول الطيب إلا ما يرى؟ ولا نرى الأنصار طائفة، ولا نرى المهدية محافظة بل هي راديكالية لدرجة فتت في عضد دولتها، ولكن ما يهمنا هنا أنه خرج عن دارج الاحتفاء إلى النظر النقدي الجاد.

 

مرة أخرى أذكرها إذ استهديت برؤاه وكنت أحرر صفحة دينية بصحيفة “أجراس الحرية” ذات الصلة المعلومة بالحركة الشعبية لتحرير السودان والتي شاركت الحكم إثر توقيع اتفاقية السلام عام 2005م، قال لي أحد الأحباب متندراً “عملتي ليك زاوية في كنيسة”! الشاهد، وجهت الدعوة لجلسة نقدية لصفحة “الجمعة الجامعة” وكم سعدت أن شرفني بروفيسور الطيب بالمشاركة وكان من نقده للصفحة أني التزم فكراً معيناً وكان حري بي برأيه أن أجعلها مرآة للرؤى الإسلامية المختلفة في قضايا خلافية كسعر الفائدة وهل هو ربا أم لا، والإرهاب وجذوره الفكرية، وقد احتفيت جداً بنظراته وسعيت لأخذها في الاعتبار.

 

كنا في المكتب الخاص للإمام الصادق المهدي نراسله دائماً، ضمن دائرة شورى فكرية للإمام في كثير من الأوراق التي يستأنس فيها برؤى مختلف المشارب، وكم حزنت حينما علمت ونحن نستعرض أسماء الدائرة لدى كتابة الإمام لورقة “نحو نموذج جديد للتنمية في السودان” التي صدرت مؤخراً إذ قلت للحبيب محمد زكي: هل أرسلتها لبروفيسور الطيب؟ فقال: هو مريض يتلقى العلاج ببريطانيا وقد اتصل به الحبيب الإمام ليعوده ويطمئن عليه. ثم عاد للبلاد، وما لبثنا حتى سمعنا النعي الأليم.

 

وأذكر حينما كتبت مسودة كتابي (أوراق في سيرة ومسيرة الإمام الصادق المهدي) قبل سنوات أرسلت المسودة لعدد ممن أقدر قيمتهم المضافة لعالم الفكر والنظر في بلادنا ومن ضمنهم طيبنا حتى يراجعها ويشير علي. وحينما لاقيته بعدها سألني ماذا عملت في كتابك؟ قلت له: تريثت حتى أجري مزيداً من البحث والتجويد، قال: “حسنا فعلت، إن سيرة رجل كالإمام الصادق لا يمكن أن تكون سلق بيض.”

 

ومع صراحته وصدقه البالغين كم احتفيت بمقولته: إني أغبطك! من أين تجدين وقتاً وعضداً لتفعلي كل هذا الذي به تقومين.. قلت: هذا نيشان أعلقه إلى أبد الآبدين.

 

رحمك الله ورضى عنك أيها الطيب. كم لك سهم في تعرية أكاذيب الجماعة التي تبرأت منها فبرؤت. لقد وصفت مينهم وأكاذيبهم، وانتقدت تلفيقاتهم، وشاركت في تبديد ظلامهم. ولك سهم في تطوير الفكر السياسي في السودان، في البحوث من أجل السلام، وفي مكافحة التطرف، وفي الدعوة للدولة التوافقية، وغير ذلك منير وكثير. وكم نحن بحاجة اليوم لدعوة التوافقية التي ناديت بها قبل أن تلوح تباشير الصبح الأبلج مع الثورة المجيدة.

 

لقد كان الطيب زين العابدين من قلائل الذين التفتوا لصيغ التوافق العالمية، وقدم في 2012م ورقة بعنوان “الديمقراطية التوافقية طريقنا للاستقرار السياسي”، دعا فيها إلى “تبني نظام الديمقراطية التوافقية على المدى المتوسط في السودان (ما بين عشرين إلى ثلاثين سنة) حتى نضمن استمرار الديمقراطية واستقرارها لمدة مناسبة يعتاد فيها الناس على قبول التداول السلمي للسلطة عبر انتخابات حرة ونزيهة، وعلى المنافسة السياسية المقننة دون تطرف، وعلى ترسيخ السلوك الديمقراطي ونشر الثقافة الديمقراطية بين قطاعات المجتمع المختلفة خاصة الطبقة الوسطى تتمسك بالديمقراطية أكثر من غيرها. ونحسب أن مثل هذه التجربة إذا تم الأخذ بها في جدية وصدق تعمل تدريجياً على حلحلة المشكلات التي ساهمت في ضياع النظام الديمقراطي لسنوات طويلة منذ الاستقلال، وتمهد الطريق لتأسيس ديمقراطية ناضجة في المستقبل.”

 

ومع أن دعوة التوافق قديمة في السودان ولعل عرابها الأول كان السيد الصادق المهدي حيث نادى بالتوافق عشية ثورة أكتوبر 1964م، وبعد الثورة استهزأ دهاقنة السياسة آنذاك بدعوته وعدها بعضهم من “سكرات السلطات” وقال آخرون إنها “من عبث أبناء الثلاثين”، ولكن دعوة التوافق لا تزال تبدو في تجارب دول مثل ماليزيا وسويسرا والهند وغيرها مثالاً يحتذى لدولة كالسودان كثيرة المشارب حادة الاستقطاب بين مكوناتها السياسية والقبلية والجهوية والطائفية المتناحرة. والفكرة هي تجاوز التوتر السياسي الناتج عن الاستقطاب باعتماد مبدأ التوافق، لخلق بيئة سياسية مستقرة، ويعطي هذا المبدأ حق (الفيتو) المتبادل أو ما يصطلح عليه ب(حكم الأغلبية المتراضية). وقد كان الطيب رحمه الله من أبرز حداة التوافق المتأخرين، إضافة للبروفيسورة بلقيس بدري التي نظمت بمركز الجندر ورشة خاصة بالنظام التوافقي قبل بضع أعوام، والدكتور مهندس علي رباح الذي أصدر كتاباً بالخصوص. ويقيني أننا لن ننهي سنوات التيه والطحان العبثي الحالي إلا بصيغة توافقية نقبل عليها بإخلاص، كفاية ضياع وطن.

 

الشاهد، سيبقى الطيب زين العابدين فينا صوتاً صادقاً وضوءاً منيراً. وستظل كتبه ومقالاته وحواراته وأفكاره باقية، وتظل مجامع الكلم التي تتردد من أحاديثه ومحاضراته في الصدور حتى نلحقه، نسأل الله مثله حسن الختام. اللهم أنزله مقاماً علياً، وأحشره مع الصديقين، ولا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده، وأحسن عزاء أسرته الخاصة والوطن الذي كم يحتاج فكر وسواعد أبنائه الطيبين.

 

طبت حياً وميتاً أيها الطيب، يا زين العابدين.

 

وليبق ما بيننا

14 مايو 2020م

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى