النازحون بالنيل الأزرق.. معاناة في الحرب والسلم!

ثلاثة أشخاص من بين 12 يموتون بسبب (الليشمانيات)

أكثر من 150 طفلاً مصابون بسوء التغذية في (شانيشا)

عندما تتجاهل الدولة الأزمة وتخفي كوارثها التي ترتكب ضد الإنسانية، فاعلم أن الأزمة لا زالت قائمة وعندما يحاسب إنسان بجريرة غيره، فاعلم أنه الظلم بعينه، أكثر من 70 ألف نازح في معسكرات النيل الأزرق يعانون أوضاعاً إنسانية سيئة، أطفال جوعى، ونساء مضطهدات ورجال أرهقتهم معاناة الحياة، فلا صحة ولا تعليم، ولا مأوى أن يصاب أكثر من 150 طفلاً بسوء التغذية، وهم يبعدون بضعة كيلومترات من المدينة، فإنه الانتهاك ضد الطفولة، وأن يموت ثلاثة أشخاص بين كل 12 شخصاً مصابون بمرض الليشمانيات أو (الكلازار)، فإنه الانتهاك ضد الصحة، وأن تتواجد كل هذه المأساة في منطقة واحدة، فإنها الكارثة بعينها، كل هذه الأزمات كانت حاضرة في معسكرات النازحين بولاية النيل الأزرق الذين شردتهم الحرب، ولكنهم يمنون أنفسهم العيش بإنسانية داخل هذه المعسكرات..

الدمازين: النذير دفع الله 

معسكر (أروما)

 يقع على طرف مدينة الدمازين من الناحية  الجنوبية الغربية حاله كبقية المعسكرات، منازل متفرقة بعضها أنشئ بالمواد المحلية المتبعثرة، والبعض الآخر لم يجد حتى المواد المحلية. وما بين  سخونة الشمس وبرودة الطقس أجبرت البعض منهم أن يضعوا جوالات فوق تلك (العيدان) في حالة بائسة علها تقيهم ما فرضته تقلبات الطبيعة، بينما حال الأطفال يغنيك أن تبحث عن تفاصيل الأشياء، حيث يضم المعسكر أكثر من 2240 نسمة، جلهم  نازحون من منطقة (باو).

 الأستاذ حامد بلول هجان، أحد شباب المعسكر والمهمومين بحال الناس داخل المعسكر ومدير المدرسة الأساسية والوحيدة بالمعسكر، قال (للصيحة) إن المعاناة داخل المعسكر تكاد لا توصف لا توجد أدنى مقومات الحياة الإنسانية لهؤلاء النازحين سيما وأن الناس هنا لا حول له ولا قوة، لا يستطيع أن يوفروا  أبسط ما يحتاجه الإنسان ليعيش يومه طبيعياً، فلا أراضي لنا ولا عمل لنا، مضيفاً أنه لا مياه ولا غذاء ولا صحة، ولكننا نكابد حتى نعيش كما البشر، الأطفال يعانون كما النساء، أصبحنا وكأننا غرباء في أوطاننا، أو كأنما جئنا من بلد آخر ولسنا سودانيين.

 مشيراً أنه مهما كانت الدوافع والأسباب أننا بشر في النهاية ونستحق التعامل الإنساني كالبقية، وأكد بلول أن الحكومة الانتقالية لم تكلف نفسها حتى مجرد زيارة لترى ما هي الأوضاع، وكيف يعيش هؤلاء النازحون، نحن ارتضينا أن نعيش نازحين، ولكن بما يستحقه النازح من كرامة وفقاً للقوانين المحلية والدولية، وقال بلول: يوجد أكثر من 400 فقدوا حقهم في التعليم نسبة لعدم توفر البيئة الملائمة من إنشاء مدرسة تليق بالأطفال، كما أن المدرسة الوحيدة في المعسكر تم إنشاؤها بالتعاون بين الأسر الذين أنشأوها بالمواد المحلية، ولكنها تحتاج لكادر تعليمي وإجلاس، فضلاً عن الكراسات والكتب حتى يلحق من فاته التعليم في مرحلة الأساس. 

وناشد بلول المنظمات الوطنية والأجنبية الالتفات للنازحين في النيل الأزرق وتفقد أحوالهم.

معسكر (شانيشا)

لم تتوقف المعاناة عند نازحي معسكر (أروما)، اختلفت المواقع وظلت المعاناة كما هي في معسكر (شانيشا) الذي يبعد بأكثر من 30 كيلو متراً شمال شرق مدينة الروصيرص، ويضم أكثر من 20 ألف نسمة، حيث وعورة الطرق ومجاري المياه والخيران التي تفصل المعسكر عن المدينة خريفاً،  مما يزيد المعاناة أكثر.

 وصلنا المعسكر  والشمس تدنو من المغيب قليلاً، بينما وضعت في مدخل المعسكر لافتات لمنظمات إنسانية تهتم بقضايا المرأة، ولكن المرأة أبعد ما يكون من تلك اللافتات ومحتواها، حيث تجسدت المعاناة في المرأة هناك، فهي من تحتطب، وهي من تحمل الماء فوق رأسها من مكان بعيد.

 وقال لايت عبدو نيقا، أحد مشائخ المعسكر (للصيحة) إن النازحين جاءوا من مناطق (مديم وبرنو وككر) في مايو من العام 2015م، بعد أن أحرقت الحكومة كل قراهم ومناطقهم عن آخرها، ولم تترك لهم شيئاً إلا  ما يرتدونه، ولم يسمح لهم بأخذ شيء مما يملكون في عملية غير إنسانية مع سبق الإصرار والترصد.

 وأضاف نيقا: جئنا على إثرها هنا كنازحين بعد أن فقدنا أموالنا وثروتنا، وبدأنا من الصفر، وأردف أن أطفالنا فقدوا التعليم، عانوا في وقت كان يجب أن يكونوا فيه في صفوف المدارس، وأشار أن الناس يعانون في كل الأوقات، ولكن تزداد معانتهم خريفاً جراء الخيران وانقطاع الطريق نحو المدينة، مما يجعل الوصول للمستشفى أمراً شبه مستحيل، إما أن تحمل مريضك على (عنقريب) وقطع هذه المسافات سيراً على الأقدام  وسط الخيران والمياه، وإما أن تتركه للموت أمام عينيك، إنها المأساة نفسها.

 وكرر نيقا: لا يوجد  مركز صحي في المعسكر يسمح بإعطاء  (درب) ملح لمريض، كل ما يوجد عبارة عن (راكوبة) قشية بها بعض الأشياء غير المفهومة تمثل  مركزاً صحياً، وجسد نيقا المسأة التي يعيشها الناس في المعسكر، واصفاً إياها بالمجاعة، وقال متسائلاً: هل يمكن لشخص أن يعتمد على 100 جرام من الغذاء ليوم، ذلك ما يصرف لنا من غذاء من إحدى المنظمات، لذلك نحن نثمن وندعم الاتفاق الإطاري بين الشعبية والانتقالية لفتح المسارات وتوصيل المساعدات الإنسانية، لأننا أحوج ما يكون لتلك المساعدات بجانب أن الأوضاع الصحية ربما تكاد تصل حد الكارثة، إذ يوجد أكثر من 50 طفلاً مصابون بسوء التغذية، بينما ينتشر مرض (الكلازار) بين الناس، وما بين كل  15مصاباً يموت ثلاثة أشخاص.

 أما الكادر الصحي لمعسكر “شانيشسا” خضر فرج فقال (للصيحة) إن الأوضاع الصحية بالمركز سيئة، فلا خدمات ولا علاج، لدينا أكثر من 150 طفلاً مصابون بسوء التغذية. وأوضح فرج أن هنالك ثلاثة أشخاص يموتون من بين كل 12 شخصاً مصباً بالكلازار، وأكد أن المركز الوحيد في المعسكر عبارة عن (راكوبة) ودولاب حديد للأدوية غير الموجودة إلا من علاج الملاريا فقط، ولا يكفي لعشرين ألف نسمة.

 وزاد فرج: لا نملك مخزناً واحداً يمكنه أن يحوي غذاء الأطفال الذين يعانون من سوء التغذية، لذلك نضطر لتحويلهم إلى الروصيرص بتكلفة 40 جنيهاً يوميًا، وهو ما يكلف كثيرًا خلال الشهر والناس فقراء لا يملكون هكذا تكلفة.

 وناشد فرج المنظمات ببناء مخزن حتى يتمكنوا من إحضار غذاء الأطفال في المعسكر، فضلاً عن إنشاء مركز صحي يستوعب كل هذا العدد وتهيئته بصورة تليق بالإنسان في المعسكر .

معسكر (خور برنق)

أما في (خور برنق) أو معسكر الوحدة شرق كما يفضل للنازحين تسميته، والذي يبعد عن الروصيرص المدينة بأربعة كيلو مترات وبه أكثر من 16 ألف نسمة، كانت المأساة عينها ولا أحد يهتم لأمر أولئك النازحين، ولم يسبق أن جاء مسئول يتفقد أوضاع النازحين، هذا ما قاله حسن محمد مالك أحد مشائخ المعسكر، مضيفاً أن النظام البائد  لم يعط هذه المعسكرات أدنى اهتمام، ولم يكلف المسؤولون أنفسهم بزيارة المعسكر وتفقد حال النازحين الذين يعيشون أوضاعاً مأساوية في الصحة والتعليم والأكل والشرب، وأن معظم الطلاب في المدارس تركوها من أجل مساعدة أهاليهم في لقمة العيش.

 من جانبه أضاف المواطن  حسن زكي درقتولي: تم تصنيفنا من جانب مفوضية العون الإنساني والمنظمات بأننا نسكن في المدينة لذلك لم تقدم لنا أي  خدمة، كل ما يأتينا هو من ديوان الزكاة في إطار المعالجات، لذلك نطالب بأن تتم معاملتنا كبقية النازحين، سيما وأن عددية المعسكر في آخر تعداد دون المواليد الجدد، وأضاف زكي أن معاناة النساء كبيرة احيانا يذهبن لجلب الماء من مسافات بعيدة على رؤوسهن. 

معسكر (العزازة)

لم نتمالك أنفسنا حينما بدأ الشيخ بامباس مكور سليمان أحد شخصيات المعسكر في سرد معاناتهم في بداية النزوح،  أنه مر علينا أسبوعان بالتمام والكمال لم نذق خلالها طعم الأكل نحن ولا أطفالنا بينما نحن غرباء في هذا المعسكر لأول مرة  لا نعرف الطرق المؤدية للسوق حتى نتمكن من إيجاد ما يأكله أطفالنا، والأشد ألمًا من ذلك هي تلك النظرة المريبة من الناس حتى  مر أسبوعان تمكنا بعدها من إحضار ما يأكله أطفالنا بينما هم عرايا وحفاة,(حتي انهمر الدمع من أعيننا حزناً مما يقول)، وأضاف بامباس إن  القوات المسلحة هناك أخبرتنا بأن الحرب تستغرق ثلاثة أيام فقط وحفاظاً على أرواحنا يجب أن نخرج من المنطقة، خرجنا من (باو) واتجهنا إلى(مقنزا)، ولكن للأسف تم الغدر بنا وأحرقوا منازلنا عن ىخرها ولم يتركوا لنا شيئاً بل لحقوا بنا في (مقنزا) وأحرقوا ما تبقى لنا من ذرة  ومواشي.

 وأوضح بامباس: جئنا إلى معسكر(العزازة)، ونحن لا نملك إلا أنفسنا، عانينا كثيراً وعانى معنا الأطفال والنساء، مشيراً  أن النساء هنا ذاقوا الألم والعناء، فهن يخرجن من الفجر وحتى المساء يتركن خلفهن أطفالا صغاراً يحتاجون للأكل والشرب من أجل العمل في المشاريع من أجل لقمة عيش تسد رمق هؤلاء الأطفال، وما يؤلمنا ونحن في هذه المأساة لم يكلف أحد من الحكومة البائدة أو الانتقالية زيارتنا وتقديم يد العون مشدداًك نطالب بالعودة الطوعية، ولكن قبلها يجب تنظيف المنطقة من الألغام والذخائر وتهيئة البيئة المعيشية، ومن ثم ترحيلنا  فنحن لا تستهوينا حياة المعسكرات سيما ونحن كنا نمتلك الثروة الحيوانية والأراضي الزراعية ومن (طردونا يستمتعون الآن بخيرات مناطقنا ولا يرغبون في عودتنا).

معسكر (القرى)

قلوير عبد الله كلفير، أحد مشائخ معسكر القرى الذي يبعد 50 كيلو مترا شرق الدمازين قال (للصيحة): كان النزوح من منطقة يابوس منذ العام 2012م، وكان الاستقرار الأول في خور منقزا  لأكثر 18 ألف نسمة، عانينا أشد المعاناة من قبل جهاز الأمن الذي كان يعتقل ويعذب المواطنين، وفي خطة مدبرة ومحكمة من حكومة الولاية سابقاً أحرقوا منازلنا في معسكر مقنزا، ومن هناك بدأت المعاناة، حيث كان المبرر أن المواطنين في مقنزا كانوا يعينون المتمردين ونحن أنفسنا كنا نريد العون، وأضاف: تفرقت الأسر بين المعسكرات، وتشتت الشمل، وتفرقت السبل، مشيراً أن معسكر القرى أحد أكبر المعسكرات بالنيل الأزرق به 16 ألف نسمة حوالي 3 آلاف أسرة، يتم دعمها ب، 3 ملوة ونصف عيش للأسرة لا تساوي شيئاً لأناس لا يملكون مصدر دخل ونازحين.

  وأكد كلفير: كنا نعيش حياة بؤس في عهد النظام البائد، بينما أصبحنا الأن نستنشق عبير الحرية والديمقراطية بعد الثورة وأصبحنا نتحدث عن حالتنا، وهو ما كان ممنوعاً في عهد النظام البائد، وقال كلفير: لابد أن  يأتي سلام حقيقي وشامل من سلام اجتماعي وتعايش حقيقي بين كل القبائل الموجودة في النيل الأزرق، أما السلام السياسي الذي يتم فوقياً وفي القاعدة غير موجود فهو لا يعتبر سلاماً ولا فائدة منه.

العون الإنساني 

عبد الله علي فضل مفوض العون الإنساني بالنيل الأزرق، أوضح (للصيحة) أن كل معسكرات النازحين  يصرف لها غذاء ما يكفي لمدة شهر، بالإضافة أن كل المساعدات الإنسانية الموجودة لدى مفوضية العون الإنساني  تمنح للنازحين، وأشار فضل أن المناطق البعيدة من المدن تصرف لهم مساعدات تكفي لمدة ستة أشهر نسبة لظروف الخريف والخوف من انقطاع الطرق حتى يتمكنوا من الزراعة لإعانة أنفسهم بدلًا من الاعتماد على إعانة المنظمات، مبيناً وجود بعض  الاحتياجات الإسعافية تتم أحياناً مؤكداً أن معاناة النازحين لن تتوقف، حيث تتخذ ضدهم بعض الإجراءات القانونية جراء احتطابهم وقطعهم للأشجار فيتم تغريمهم، وأحيانا السجن لمدة تصل ستة أشهر.

 وكشف فضل أن أكثر من 30 ألف نازح لا يملكون بطاقات ويعتمدون في غذائهم على أهليهم الذين يملكون تلك  البطاقات مما يساهم في تقليل نسبة الغذاء عند بعض الأسر، وهو أمر يحتاج معالجة، وطالب فضل المنظامات العاملة في مجال الأطفال والنساء أن تقدم المساعدة للأطفال والنساء كبار السن والأرامل في تلك المعسكرات.

  وأقر فضل بأن الإعانات المالية التي كانت تعطى لهؤلاء أوقفت مع سقوط النظام .

تجاوز الخدمات

فيما أوضح القيادي والناشط بالحركة الشعبية صدام الفكي، أن معاناة النازحين بدأت مع بداية تهجير السكان من منطقة سد الروصيرص والذي يعتبر أكبر جريمة ارتكبت ضد إنسان النيل الأزرق الذي لم يجن منها سوى الألم والمعاناة، حيث تجاوزته الخدمات إلى غيره، فضلا عن ظهور بعض الحالات التي سجلت لزلازل متكررة جراء البحيرة، مطالباً بضرورة فتح هذا الملف مرة أخرى والبحث عن الحقوق المفقودة..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى