“موازنة ٢٠٢٠” ورفع الدعم والخيارات الصعبة والسياسات المطلوبة (٤ـ٤)

موازنة البلاد السنوية تبدأ في الأول من شهر يناير، وقد كانت في فترة سابقة تبدأ في الأول من شهر يوليو، كان ذلك حين كانت موازنة الدولة تعتمد إلى حد كبير على مشروع الجزيرة والقطن، فقد كان قانون المشروع يحدد أن يتم صرف أرباح المزارعين وبقية الاستحقاقات في أو قبل الثلاثين من شهر يونيو من كل عام، على ألا تزيد تكلفة الإدارة على عشرة بالمائة من صافي أرباح القطن، وإذا فاض البند يحول الفائض إلى الاحتياط ومال رفاهية المزارعين، وما كان مسموحاً للعاملين بالمشروع تعاطي الزراعة لأنفسهم حتى لا يحدث تضارب في المصالح، وهذا هو القانون السائد في السودان،  إلا يقوم العامل بعمل يتناقض مع ما يقوم به في وظيفته الموازنة الأمريكية تتفتح في الأول من أكتوبر من كل عام على أن تودع مقترحات لدى الكونقرس في أو قبل الحادي والثلاثين من كل عام، والكونقرس غالباً يجيزونها مجزأة، الموازنة البريطانية تبدأ في الأول من شهر أبريل. وبما أن أية موازنة تتكون من إيرادات ومصروفات وناتجها، إذا كان فائضًا فكيف يتم توظيفه، وإذا كان هنالك عجز كيف تتم معالجته.

الموازنة في السودان تعاني من عجز مستدام ومتعمق كما هو معروف لدى الجميع. والموازنة كاملة لا تساوي إلا  نسبة ضعيفة جداً من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد. وقد أوردت مقترحات الموازنة المنشورة أن الضرائب  تساوي حوالي ستة بالمائة من الناتج المحلي الإجماعي Tax ratio to

GROSS DOMESTICS PRODUCT

وإذا احتسبنا اقتصاد الظل أو الأنشطة الاقتصادية غير المسجلة نجدها حسب التقديرات ربما تساوي المرصود أو أكثر منه، واقتصاد الظل هذا موجود في الدول، وآخر الدراسات تقول إنه حتى اقتصاد الظل فى المملكة العربية السعودية يقارب العشرين بالمائة من المرصود.

من أهم وأخطر القضايا التي يدور النقاش حولها في مقترح مشروع موازنة ٢٠١٩ هو رفع الدعم عن المحروقات والخبز وخروج بنك السودان المركزي من الذهب، وزيادة مرتبات العاملين بالدولة. وتلك قضايا شائكة سياسياً واقتصادياً وأمنياً واجتماعياً. يبدو أن مراكز القرار في الحكومة وحتى الأحزاب والجماعات العرضية تتبنى إلى حد كبير الوصفة الكلاسيكية لثلثي صندوق النقد الدولي [ IMF] والبنك الدولي لإنشاء والتعمير [ IBRD] ودعاة المدرسة النقدية [Monetarist School] أو مدرسة جانب العرضSupply Side Economics]

و الليبرالية المحدثة

[Neoclassical Economics]  وعلى رأس مفكريها بروفيسور ميلتون فريدمان من مدرسة شيكاغو للاقتصاد.

وأصبحت تلك الوصفات التي ما ذهبت نحوها دولة إلا وأذاقت شعبها الأمرّين ولكنها تثري بعض المجموعات النافذة والمتنفذة، وتجد لها كثيراً ممن تربوا في حاضناتها وتلك المنظمات الشبيهة، و قد علا صوت الرأسمالية المتوحشة علواً منكراً في السودان إذ تخلى الشيوعيون  عن الدعوة للاشتراكية ذات الوجه الإنساني وباعد الإسلإم بينهم ومبادئ وشعارات العدالة الاجتماعية، وحتى الأحزاب الكبرى ذات الثقل الجماهيري الكبير وخاصة في الأرياف تابعت تلك الموجة، واحتفت بدعاتها والمنتفعين منها احتفاءً عظيماً، ولو كان على حساب جماهيرها العريضة المهمة في الأرياف.

أما عن الدعم وخاصة الخبز والوقود فنقول إنه حسب المعلومات أن الخبز داعم وليس مدعوماً، فالخبز الذي نشتريه من المخبز فإن الآلي منه أربعين في المائة من وزنه ماء والنسبة أعلى في الخبز البلدي، لأن الرغيف أو العصيدة أو القراصة لا يمكن خبزها إذا لم يضف إليه ماء يعادل ستين بالمائة من وزن الدقيق، وهذا معلوم بالضرورة لمن اشتغل في ذاك المجال. أما البترول ومشتقاته فنعم أن مدعوم، و لكن رفع الدعم فقط لن يحل المشكلة، لأن ما يعانيه المواطن والدولة والاقتصاد ككل ،هو تدني القوة الشرائية للجنيه السوداني، فيجب تركيز التفكير والسياسات والإدارة على هذه المشكلة، والأخريات تبعاً لها. فلو حافظنا على قيمة الجنيه السوداني لوجدنا أنه لو تم رفع الدعم عن الوقود لما شعر به أحد، وحينها كان جالون الجازولين بجنيه واحد فقط. إذا أرادت الحكومة أن تزفع الدعم فيجب أن يكون ذلك ضمن حزمة سياسات متكاملة الحلقات، تبدأ بخلق قاعدة دعم وقبول للسياسات الجديدة بخفض الدولة إنفاقها في هذا الجانب. أولًا عليها التخلص من الأسطول المهول من العربات الحكومية ولدى الهيئات والمؤسسات والشركات وما إليها وبيعها بالمزاد العلني وبكامل الشفافية  واستخدام العائد أرباعاً، ربع لتطوير منظومة النقل العام، وربع للفصول المدرسية، وربع للمراكز الصحية، وربع لآبار المياه.

لا بد من ضبط الأسعار ضبطاً واضحاً. إلغاء كل الإعفاءات والامتيازات وتأكيد  الخزانة العامة الموحدة مع إعمال الشمول المالي والضريبي المحوسب الموحد  للدولة، والرجوع لنظام الخدمة العامة الموحدة هياكلها الإدارية والوظيفية وتوحيد هيكل الأجور والمكافآت، إيقاف صادر الخامات. أن يقوم البنك المركزى بشراء الذهب والاحتفاظ به احتياطياً يدعم العملة الوطنية ويُثبّت قيمتها، العمل على استرداد  الموارد التي تم التخلي عنها بلا سبب وجيه مثل الاتصالات، والتي تعتبر من أسهل وأهم الموارد الآن، تطوير المشروعات الزراعية الكبرى حتى تصبح حاضنات للتصنيع الذي يوفر موارد ومضاعفة الصادر، ويعالج كثيرًا من مشاكل البطالة وضعف الإيرادات المحلية والجالبة للعملات الصعبة.

إما إذا لم تتخذ الخطوات التي ترفع القوة الشرائية للجنيه السوداني، فلن تعالج مشكلة التضخم، ولا العجز في الميزان التجاري، ولا الموازنة، وإن لم يتم ذلك، فزيادة الأجور لن تزيد إلا الأسعار ونسب التضخم العالية.

والله من وراء القصد

ولقد أسمعت لو ناديت…..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى