خربشات الجمعة

(1)

دار الريح هي الأرض المنبسطة الممتدة من مدينة الأبيض عاصمة إقليم كردفان شمالاً حتى الصحراء.. وغرباً حتى حدود إقليم دارفور، وتعتبر “دار الريح” منطقة ثراء ثقافي وتعدد إثني وتتماهى مكوناتها في السودان النيلي، وهم بدو يجوبون الأرض الواسعة من نهر النيل حتى وادي هور ووادي الملك.. ويرحلون صيفاً في سنوات “القحط” جنوباً وأشهر البدو الكبابيش والهواوير ودار حامد “الجليدات” والكواهلة.. وسكان حضر في مدن بارا وسودري وحمرة الشيخ وهؤلاء جعليون ركابية.. وبديرية وشايقية ودناقلة.. وجميع هؤلاء “تكردفوا” أي أصبحوا كردفانيين والمكون الثالث هم سكان القرى الذين يمتهنون الزراعة مثل دار حامد وحمر والجبال البحرية.. وتضم دار الريح أربع نظارات رئيسية هي نظارة الكبابيش ومقرها في جبرة الشيخ ونظارة دار حامد ومقرها في أم سيالة سابقاً وجريجخ حالياً ونظارة الكواهلة في أم بادر والجبال البحرية وإلى الغرب نظارة حمر التي تمتد حتى مناطق أبوزبد وتخوم دارفور ونظارة الجوامعة شرقاً وعاصمتهم الرهد أبودكنة.. ونظارة البديرية جنوباً التي تمتد حتى جبال النوبة الشمالية..

ودار الريح أرض بكر يقطنها الملايين من السكان غير المشمولين بالإحصاء السكاني تاريخياً لأسباب ثقافية واجتماعية.. وهي الأرض التي كانت الملاذ للشعراء والأدباء الرحالة والمهاجرين من الناصر قريب الله وحتى أحمد الفرجوني.. وألهمت الأرض والوجوه الحسناء الشعراء شعراء الحضر عثمان خالد إلى مسافرة.. وفضيلي جماع ومحمد حامد آدم ضابط السجن وألهمت البادية الشريف زين العابدين الهندي رائعته..

في غروبك ربوع خصبة وتبر مبهول

وديان من عقيق مغسولة مطر وسيول

عند بلوغ مدينة جبرة الشيخ عاصمة الكبابيش الشرقية يتنازع أمثالنا ما بين الاسترخاء وشرب القهوة وشاي اللبن في المقاهي الحديثة على جانبي الطريق الجديد (طريق الصادرات) الذي قيل في الإعلام إن الدكتور عبدالله حمدوك سيسلك درباً بديلاً ويشيد طريقاً آخر بمسارين حتى يمسح آخر أثر لأحمد هارون، ولكن أحمد هارون في قلوب أهل كردفان قبل المباني والإستاد الرياضي والمستشفى والماء.. نبتت على جانبي الطريق مقاهٍ بديلة لمقاهي جبرة الشيخ العتيقة.. ما بين الماضي والحاضر تتجاذب العابر لتلك المدينة مشاعر وذكريات الأمس وحداثة اليوم..

(2)

للأخ ياسر مختار قدرة مدهشة في الأنس وكسب الآخرين وإطلاق الدعابة.. في جبرة الشيخ مقهى لسيدة أو فتاة لقد تشابهت السيدات والفتيات في زمن تتزوج فيه الفتاة باكراً ويهجرها زوجها مغترباً أو يرحل عن الدنيا برصاص الحروب وتلوذ بالأسواق تأكل من عرق جبينها وخدمة ضراعها في ذلك المقهى فتاة قصيرة القامة.. بهية الطلعة تجيد استمالة زبائنها بحسن هندامها وحشمتها وجودة طعامها و”حلاوة شرابها” من قهوة وشاي طبعاً لا يزال المشروع الحضاري من بقية ولم يعد للريف ماضيه القديم.. أطلق ياسر على تلك الفتاة اسم “بتول” والبتول نوع من الدجاج قصير القامة يكاد يزحف زحفاً وصغير الحجم لكنه يتكاثر بسرعة وتبيض الدجاجة أكثر من عشرين بيضة.. والفتاة القصيرة القامة فرحة باسمها الذي تفتقت عبقرية ياسر له.. وفي مقاهي جبرة الشيخ القديمة حيث السوق والمسجد والاجزخانة البيطرية والبشرية.. وهناك لا تمييز بين الإنسان والحيوان في تلقي العلاج.. تعيد إليك المقاهي شيئاً من ألق الزمان القديم أيام بصات شيكان وبصات الرفاعي النيسان وقنديل كردفان ومشقة الرحلة بين الأبيض وأم درمان وجبرة الشيخ هي حسناء الكبابيش التي قال فيها الشاعر الهمباتي..

يوم تلقانا من جبرة وقصدنا سلوم

ويوم تلقانا من الدار قطعنا الحوم

ما بنموت لو اليوم بقى ما يومنا

وما بنفذ حتى سمحات القبيلة تسومنا

ومن أرياف جبرة جاءت والدة الرئيس المصري الأسبق محمد أنور السادات وتلك قصة لم يروها الباحث خالد الشيخ بعد.. وخالد مثقف عميق المعرفة..

(3)

في عام 1915م عندما قرر الإنجليز القضاء على السلطان علي دينار وتم إسناد رئاسة الحملة لرستم باشا الشهير بالمرفعين أبوحجل.. وضمت الحملة جنودا وإداريين وضباطاً وأطباء وممرضين.. وفي بارا كان هناك “بلك” عسكري وهناك كانت الفتاة أم سترين بنت خير الله ود عبد الله تقوم بإعداد الطعام للضباط والبعثة الطبية، وهي من كواهلة منطقة فتوار التي تقع غرب واحات البشيري وشرق قرية قوز سلمان التي يقطنها “الغنادير” أي أسرة سليمان غندور.. أعجب الطبيب أنور السادات بالفتاة أم سترين وتزوجها على سنة الله ورسوله وأنجب منها ابنه محمد أنور السادات الذي حكم مصر وأسرة محمد أنور السادات تتواجد الآن في مناطق قنتي وهم تجار إبل وحتى في سنوات حكمه كان يستقبل “خيلانه” السودانيين من عرب الكواهلة بحفاوة وكرم، ولكن الكاتب المصري محمد فوزي أنكر جذور السادات السودانية في كتابه عن حكام مصر وتاريخهم الاجتماعي.. وكذلك تعتبر منطقة دار الريح ثرية ولكنها تتعرض للزحف الصحراوي القادم من الشمال مما يهدد حياة الإنسان والحيوان..

وكل جمعة والجميع بخير..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى