منى أبوزيد يكتب: أزمة سيكولوجية

هناك فرق

منى أبوزيد

أزمة سيكولوجية

“ياموت .. اجلس على الكرسي .. كن أسمى من الحشرات .. كن قوياً ناصعاً .. ياموت .. اخلع عنك أقنعة الثعالب .. كن فروسياً، بهياً، كامل الضربات” .. محمود درويش ..!

الإيمان بقدرية الموت والتسليم به كقضاء مع كراهة وقوعه على النفس من المتناقضات الجليلة التي تفوح بها نفوس المؤمنين، حين يمتزج التسليم بقضاء الله مع مكابدة الفقد، ولا يقول العبد المؤمن إلا ما يرضي الله.. يقول أبو العتاهية “الدهر ذو دول .. والموت ذو علل .. والمرء ذو أمل .. والناس أشباه .. وكل ذي أجل .. يوماً سيبلغه .. وكل ذي عمل .. يوماً سيلقاه”

والموت عند العارفين حياة .. وهو من ابن حنبل .. إلى ابن تيمية .. إلى الحلاج .. إلى ابن عربي .. إلى النورسي .. يقين وبداية وتبديل مكان وتحويل وجود .. وهو بعد ذلك صيرورة .. وكل كائن من حبة القمح.. إلى النملة .. إلى الملوك والسلاطين صائر إليه.

ولكن على الرغم من كل اليقين الإنساني المتوارث بشأنه يظل الموت أزمة سيكولوجية لا بد أن تصهر روح الحي بعد رحيل الميت.. فالناس لا يبكون الموت كحدث، بل يبكون الفراق- أعظم تداعياته وأشدها إيلاماً -.. يبكون إدراكهم لفكرة السفر والرحيل الأبدي.. ثم يعيشون مع الذكرى.. وبعد رحيلهم يبكي فقدهم آخرون .. وهكذا حال الموت.. صنو الحياة ووجهها الآخر .

وعند هذا المعنى تلتقي قناعة الشاعر العربي قطري بن الفجاءة مع فلسفة الشاعر الألماني ريلكة .. فقطري يقول مخاطباً روحه.. “أقول لها وقد طارت شعاعاً من الأبطال ويحك لن تراعي .. فإنك لو سألت بقاء يوم .. عن الأجل الذي لك لم تطاعي .. فصبراً في مجال الموت صبراً .. فما نيل الخلود بمستطاع” .. بينما يقول ريلكة “يا إلهي .. امنح كل إنسان الموت الذي يستحق”

فعند خارطة الألم الذي يكابده الحي بفراق الميت يتلقي بنو الإنسان أجمعين، وعند الجزع من فكرة استحالة اللقاء وتعذر الرؤية تلتقي الفلسفات والأفكار والنصوص .. وعن هذا يقول لوركا – شاعر الموت – في رثاء فقيده “لن أراه .. تركت ذاكرتي .. اشتعلتْ .. أحرقت الياسمين .. من دقيقة ضعف واحدة” .. وعن هذا قال ويقول معظم الباكين في مواجهة اللائمين (نعلم أنّ الموت حق.. إنّما نبكي الفراق).

رحم الله موتانا جميعاً وأسكنهم فسيح جناته.. إنّ العين لتدمع.. وإنّ القلب ليحزن .. وإنّا لفراق أحبائنا لمحزونون .. كم رحل عن دنيانا أحباء مميزون .. أناس مميزون يحبون الله ورسوله .. مواطنون مميزون يحبون الوطن والناس .. وعباد صالحون اختصهم الله بقضاء حوائج الناس .. حببهم في الخير .. وحبب الخير إليهم .

اللهم أغفر لموتانا وارحمهم وجميع موتى المسلمين .. اللهم أحينا وأمتنا مسلمين .. وارحمنا إذا صرنا إلى ما صاروا إليه .. ونسي اسمنا .. ودرس رسمنا.

[email protected]

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى